في آخر جلسة جمعتني مع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، تطرق الحديث لجذور الوطنية المغربية، وقال لي إنه مهما كان تقويم تجربة الدولة الحديثة في المغرب وما شهدته من تجاذبات حادة وصراعات شرسة بين الفاعلين السياسيين، فإن المكسب الكبير الذي لا سبيل لإنكاره هو أن في المغرب دولة مركزية قابلة للاستمرار والإصلاح، في حين يرى أن الكثير من الدول العربية مهددة بالتفكك والانهيار. كان هذا الكلام قبل أحداث «الربيع العربي»، التي أثبتت صدق توقع مفكرنا الراحل كما هو مشهود ولا يحتاج لبيان. بطبيعة الحال، لم يكن الجابري يتحدث عن نمط من الدولة الوطنية القديمة الثابتة في هويتها وحدودها، فمن البديهي أن نموذج «المخزن -السيبة» الذي طبع التجربة السياسية المغربية منذ العصر السعدي، يختلف عن شكل الدولة الوطنية الحديثة من حيث محددات الحاكمية السياسية (في ضبط المجال وتدبير السكان)؛ لذا فإن الدولة المغربية المعاصرة هي نتيجة مزدوجة للمشروع الاستعماري ونضال العرش والحركة الوطنية. صحيح أن العامل التاريخي من المكونات الرئيسية للهوية الوطنية التي أنتجتها الدولة الحديثة، بيد أن الأمر يتعلق في الأساس بمرجعية يجري تكييفها مع متطلبات الوعي الحاضر والمتخيل الجمعي القائم (ومن هنا إعادة الاعتبار للجذور الفرعونية والفينيقية.. للهويات الوطنية الجديدة). ليس الأمر خاصاً بالبلدان العربية التي ينظر إليها عادة على أنها الاستثناء الأوحد في الجغرافيا السياسية العالمية، فما تثبته الدراسات التاريخية المعاصرة أن الدول -الأمم في أوروبا- هي نتيجة مسار مزدوج قوامه الحروب الدينية والقومية من جهة، وسياسات المزج والتجنيس القسري التي فرضتها هذه الدولة الوليدة التي لم تكن في بدايتها تعبيراً عن مجتمع متجانس بوعي موحد. ما تختلف فيه البلدان العربية ليس إذن التباين في جذور الدولة الوطنية، الجديدة على كل البلدان، حتى ولو تباينت في خبرة التدبير المركزي للمجال الجغرافي والسكاني للأقاليم التي تنتمي حالياً لحدودها السيادية. فبخصوص بلدان المغرب العربي، يبين مثلاً المؤرخ التونسي «هشام جعيط» أن المسار التاريخي لنشأة الدولة في تونس ارتبط بدور المركز الروحي والثقافي الذي شكلته العاصمة تونس بنخبها العلمية والدينية وجيشها المركزي بعد الانفصال العملي عن دولة الخلافة العثمانية، في حين تأسست دولة المخزن المغربية على هندسة سياسية معقدة تؤدي فيها الملكية دوراً محورياً ضمن تركيبة مجتمعية إقليمية مرنة، بينما ظل البناء المركزي مفقوداً في دولة الدايات بالجزائر، وهم القادة العسكريون الأتراك الذين لم يندمجوا في النسيج المحلي؛ ولذا كانت الدولة الجزائرية الحديثة هي حصيلة مقاومة ونضال الحركة الوطنية. بعض الباحثين يذهب إلى تفسير تباين التجارب السياسية العربية بمعطيات جغرافية انسياقاً وراء أطروحة قديمة في الجغرافيا السياسية تذهب إلى أن المعطيات الطبيعية الثابتة حاسمة في تحديد هوية البلدان ونمط تشكلها. ومِن آخر مَن طبّق هذه الأطروحة الباحث السياسي الأميركي «روبير كابلان» في كتابه «ثأر الجغرافيا»، الذي ذهب فيه إلى القول بأن إهمال «الواقعية الجغرافية» يفضي إلى أخطر النزعات المثالية المدمرة. ومن الأمثلة التي يقدمها كابلان على تأثير العوامل الجغرافية تفسير النزعة الحربية التوسعية الروسية بغياب حدود بحرية ثابتة لروسيا، وميل الصين إلى توسيع مجالها الإقليمي عن طريق التجارة، وتفسير انعدام الاستقرار السياسي في باكستان وأفغانستان بأنماط الخلل الأصلي في ضبط الحدود الإقليمية. ومن هذا المنظور، ينظر إلى طبيعة الجغرافيا السياسية للمجال الشرق أوسطي التي صممتها السلطات الاستعمارية في بدايات القرن المنصرم، باعتبارها المسؤولة عن الأزمات الراهنة. ما نريد أن نبينه هو أن السبب الرئيس لأزمة الدولة في الساحات الملتهبة ليس راجعاً إلى ضعف تركة الدولة الوطنية، ولا الخلل في الهندسة الجغرافية (التقطيع الاستعماري للمنطقة)، وإنما سببه الأساس هو نمط التدبير السياسي الذي انتهجته الديكتاتوريات العسكرية والأمنية التي قوضت النسيج الأهلي ولم تسع إلى بناء الهوية الوطنية الجامعة التي تصنعها الدول، وإن كانت تتحول إلى قاعدة البناء السياسي وإطار شرعيته الناظمة.