منذ سقوط نظام سياد بري في بداية تسعينيات القرن العشرين والشعب الصومالي يعاني من سلسلة من الكوارث السياسية والأمنية والاقتصادية والمعيشية وانهيار الدولة والمجتمع. فالعقود الثلاثة أو نيف التي مضت كانت مؤلمة على الصوماليين المنكوبين ولمعظم الفاعلين الدوليين الذين حاولوا التدخل في المشكلة. إن تحلل الدولة والمجتمع وانهيارهما التام، والعنف والتشرد والمجاعة والتدخلات الدولية التي حدثت دون تحقيق النجاح أو الأمن أو السلام، جميعها أمور تعكس الطبيعة القاسية للقوى التي فعلت فعلها في هذه المأساة. الكارثة الواضحة التي ألمت بهذا البلد وشعبه كان من الممكن لها أن تستدعي المجتمع الدولي منذ البداية إلى رد فعل يانع، لكن ذلك لم يحدث بصورة صحيحة أو مقنعة. الانهيارات التي حدثت كبيرة على جميع المستويات ليس أقلها التحطيم الذي حدث على منظومة عامة من المبادئ المعيارية أو الثقافة السياسية الضرورية لتماسك الجماعات والتواصل فيما بينها، فالنظام الاجتماعي الصومالي القديم القائم على صلة الدم، أو ما يعرف في الثقافة الصومالية بـ«الهير»، وعلى الترابط الديني فشل في النجاة من الضغوط الشديدة التي وقعت عليه في جانبها المتعلق بالعلاقات الاقتصادية المرتبطة بالإنتاج لأسواق السلع الغذائية والعلاقات السياسية الجديدة المنبثقة من خلق كيان سياسي خاضع للاستعمار أولاً، ثم بعد ذلك للدولة الوطنية المستقلة. قيام نظام اجتماعي جديد ينظمه انتاج السلع الغذائية ويركز على الفردية والرفاه الفردي الذي تصاحبه قاعدة موارد في طور التقلص، دمر العلاقات القديمة بين رابطة الدم والقبيلة بالإضافة إلى التعاليم الدينية. فضمن عملية صراع ومعاناة الأفراد، ولتأمين موطئ قدم لهم في عالم جديد يشوبه الحذر والفردية والمصالح الذاتية الضيقة، انحسرت روابط الدم كما تنحسر مياه البحر وقت الجزر، وذلك مما اتضح من فساد وتشرذم ناتج عن المحاولات اليائسة لموضعه الذات في وسط ظروف جديدة مضطربة. انهيار الدولة والمجتمع منذ بداية تسعينيات القرن العشرين، زاد في تدمير ثقافة الامتناع عن العنف القديمة، التي كانت تحيط ببيئة الحياة اليومية. النظام القديم للمعتقدات والمحددات الخاصة بالسلوكيات القديمة، أصبح شأناً يناسب عالماً آخر غير عالم الحياة اليومية السائدة في الصومال، بمعنى أنه لم يعد مناسباً للحياة العجيبة التي يسودها العنف والخوف في ظل انهيار الدولة التي لم تكتمل معالم حداثتها بعد، والمجتمع الذي لايزال يبحث لنفسه عن طريق سالكة نحو الحياة العصرية. وروابط الدم المنقطعة وصلت إلى وضع غير مسبوق في تاريخ الشعب الصومالي، الذي بات مفتقداً للكثير من معاني وجوانب الحياة العصرية. وأصبح الصوماليون يستبدلون أواصر القرابة والنسب والتجانس الديني بالطائفية المصلحية البغيضة التي تكاد أن توصلهم إلى الهلاك المحتوم. هذا الانفصال عن الروابط التقليدية وثقافة أن الصوماليين شعب واحد مزق أسس المجتمع إرباً إرباً. وبدوره فإن هذا الانهيار الأخلاقي أنتج عدداً من الأفراد المغتربين والمعادين للدولة والمجتمع. والنتيجة أن ما تبقى من المجتمع حالياً محاصر بشبح الطائفية الفاقدة للالتزام الجماعي، والذي يسير باتجاه المزيد من الظلامية والتحطيم في الوقت الذي فشل فيه المجتمع في توليد أسس ثقافية جديدة تحفظ البنى الثقافية التي أقصيت إلى مكان سحيق من عدم القدرة على الحد من السلوكيات العدوانية، وهو الآن غير قادر على الوقوف على قدميه، لكي يبني لنفسه مستقبلاً جديداً. وآخذا بعين الاعتبار هذا الوضع المتردي والمحزن، ربما أن من المناسب طرح الصرخة التساؤلية التالية: ماهي السياسات والمبادرات الممكنة التي يمكن للعرب وللمجتمع الدولي انتهاجها على المدى المنظور لحل المشكلة والعمل على إعادة الشرعية إلى الدولة والمجتمع وتحقيق السلام والأمن للصوماليين وفيما بينهم؟