منذ أكثر من عشر سنوات، مع ابتداء الانتصارات الانتخابية لـ«حزب العدالة والتنمية» الإسلامي التركي، والمدائح التي تكال لهذا الحزب ولقائده أردوغان لا تتوقف: فهو، وفق تلك المدائح التي ترددت في تركيا كما في بلدان الشرق والغرب معاً، جدد الإسلام السياسي التركي وحرره من الجمود وانعدام الحركية اللذين اتصف بهما في ظل قائده التاريخي الراحل نجم الدين أربكان. وهو بضربه نفوذ المؤسسة العسكرية وقمعيتها، مستفيداً مما وُصف بمحاولة انقلابية لإطاحة حزبه وحكمه، أنشأ استقراراً سياسياً لبلده لا تقطعه الانقلابات العسكرية كل عقد من الزمن. لكنه، فوق هذا، مهد لـ«مصالحة الإسلام والديمقراطية»، المصالحة التي ألحت عليها أجيال من المثقفين المسلمين بقدر ما ألح عليها غربيون أرّقهم فشل الديمقراطية في العالم الإسلامي. وإذ استأنف أردوغان وحزبه التفاوض مع أوروبا بشأن استكمال الانضمام إليها، فإنهما ضمنا للأقلية الكردية الكبيرة حقوقاً أكبر، كما فتحا الباب للحوار مع «حزب العمال الكردستاني». هذا علاوة على أن تحسناً نوعياً طرأ على الوضع الاقتصادي. لقد اهتم العالم بأردوغان كصاحب قامة تاريخية غير مسبوقة في المنطقة. هكذا ساد ميل للتسامح معه ومع ما يفعله، فكان يقال مثلا: صحيح أنه لا يكتم ميله الصارخ للديماغوجية والشعبوية، لكن إنجازاته تغطي على ديماغوجيته وشعبويته. كما قيل عند انهيار نظرية داود أوغلو، وزير خارجيته ثم لاحقاً رئيس حكومته، عن تصفير المشاكل، إن النظرية هذه تعكس رغبات صادقة لدى أردوغان، لكن أنقرة لا تستطيع التحكم بمجريات الدول الأخرى المحيطة بها وبتفاعلاتها السياسية. لكنْ قبل سنة بالتحديد، افتتح خلاف أردوغان مع حليفه وشريكه فتح الله غولن بداية لتداعي صورة أردوغان. وكما بات معروفاً فإن غولن يرعى شبكة واسعة من المؤسسات التعليمية والمالية. لكن أنصاره بفتحهم ملفات الفساد في سلطة «حزب العدالة والتنمية» فجروا تحالفهم مع أردوغان بقدر ما أثاروا الشبهات حول بعض وزرائه وأبنائهم. وبالفعل بدأ أردوغان حملة شرسة ضد غولن شخصياً وضد أنصاره الذين وصفهم بـ«الدولة داخل الدولة»، فيما كان يتكشّف أن الفساد يطال أردوغان شخصياً وأحد أنجاله. وحدث هذا الانفجار بعد أشهر قليلة على إزاحة الرئيس المصري الإخواني محمد مرسي الذي كان حليفاً لتركيا الأردوغانية. هكذا بدا أن «السلطان العثماني الجديد»، خسر ما لا يعوَّض إقليمياً، خصوصاً في ظل انهيار علاقته بالنظام السوري، وفتور علاقته الأخرى بإيران. وأبعد من هذا، بدا أن سقوط مرسي، واتعاظ «إخوان» تونس بأخطاء نظرائهم المصريين، حدّا من نفوذ النموذج التركي عربياً وإسلامياً. وإذ حوّل أردوغان نفسه من رئيس حكومة إلى رئيس جمهورية، بعد إكساب رئاسة الجمهورية صلاحيات موسعة، بدأت تتسرب معلومات حول خلافات داخل الحزب الحاكم نفسه. وكثيراً ما ذُكر رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل بوصفه أعلى الأصوات المعترضة. لكنّ الأمور ما لبثت أن تعثرت مع «حزب العمال الكردستاني»، حتى إذا بدأت حرب «داعش» على كوباني، اعتبر الأكراد أن سياسة أردوغان معادية لهم. وفي موازاة ذلك، بيّنت أحداث عدة، لاسيما زيارة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تركيا وكلام أردوغان الذي أعقبها، أن العلاقات التركية الأميركية ليست في أحسن أحوالها. فإذا صحّ اعتبار الراديكالية التركية حيال نظام بشار الأسد مطلوبة ومعقولة، فإن هذا التقييم لا يسري على شبهة العلاقات فيما خص التنظيمات الإسلامية الإرهابية، وضمنها «داعش». وبدورها خضعت مسألة الانضمام التركي للاتحاد الأوروبي لما يشبه التجميد، فيما توقفت الإشادات بتحسن الوضع الاقتصادي ليحل محلها كلام عن المراوحة في المكان ذاته، مع تحذيرات من احتمالات التراجع والنكوص. ومؤخراً بدأ يُنظر بعين تجمع بين النقد والسخرية إلى بعض ما يصدر عن أردوغان من مواقف وتصريحات. فبعد حظره تويتر ويوتيوب، جاء كلامه عن اكتشاف المسلمين لأميركا قبل كريستوف كولومبوس، أو مساواته الحصرية بين المرأة والأمومة، ليذكّر البعض بآراء غريبة اعتاد أن يدلي بمثلها القذافي. وهذا عموماً لا يعني أن أردوغان فقد قوته ونفوذه، أو أنه صار زعيماً معزولا في قصره. فهو لا يزال سياسياً قوياً ومؤثراً، بل ربما السياسي الأقوى في بلاده، كما أظهرت الانتخابات البلدية الأخيرة.. لكن المؤشرات كثيرة على أن التداعي السياسي يشق طريقه، وأولُ التداعي ما يطال صورة أردوغان ذاته.