لا شك أن الثورات والانتفاضات التي جرت في بعض البلدان العربية قد أدت إلى استعادة كثير من الأدباء العرب للعلاقة التبادلية بين المجتمع بكل إفرازاته وأعطياته وبين النص الإبداعي، شعراً ونثراً، بعد طول تيه في طريق معاكس ظهرت فيه نصوص تحتفي فقط بـ«التشكيل الجمالي للغة»، متنصلة من أي حمولات حول قيم أو معان أو قضايا، وتم كل هذا تحت لافتة عريضة تنادي بموت السرديات الكبرى وانتحار الأيديولوجيات ومصرع الأطر الحاكمة، ونهاية النماذج الإرشادية. وقد شق هذا التيار طريقاً وسيعاً في مجال الإبداع الفني طيلة العقود التي خلت، وأعطى ظهره للأعمال التي خلفها الرعيل الأول أو تلك التي أنتجها الخَلَفُ متأثرين بسلفهم، أو ما جاد بها التلاميذ على خطى أساتذتهم. وبعض هؤلاء، حتى من كبار الأدباء، اضطر إلى أن يحول وجهته، أو بعضاً منها، وسار على درب تلاميذه، مستلباً لهم أو متجنباً لهجائهم أو مقتنعاً بمسلكهم أو معتقداً في أن المستقبل هو لهذا النمط من الكتابة وليس غيره أبداً. وحاول بعض النقاد أن يضع أساساً نظرياً أو اقتراباً معرفياً لهذا الدرب، عطفاً على ذلك الذي جاءنا من الغرب شبه مكتمل. وكان على رأس هؤلاء الروائي والناقد إدوارد الخراط الذي وصف هذا النوع من السرد بـ«الحساسية الجديدة»، واحتفى في إفراط بكل إبداع ينتمي إلي تلك الطريقة، ونبذ كل من يبتعد عنه أو يلتزم بدرب الآباء والأجداد، بدعوى أن هذه «كلاسيكيات» يجب هجرها، لتوضع في «تاريخ الأدب» وتنام على أرفف الزمن، لا تتداولها الأيدي ولا تطالعها العيون ولا تتذوقها الأفئدة، وتكون نسياً منسياً. ولا شك أن النزعة إلى التجديد مطلوبة، والتمرد على السائد والمألوف ضرورة، ورفض تحويل الأدب إلى وعظ أو منشور سياسي أو خطاب أيديولوجي واجب، لكن الاعتقاد في إمكان استغناء الشكل عن المضمون خبل وخطل وادعاء، وتصور أن ما خطه الآباء في الرواية والقصة قد فات أوانه جهل، والحديث عن أن الأديب يمكن أن يكتب من فراغ أو يبدأ من الصفر زيف وتكبر وتجبر في آن. وقد انتبه الناقد الكبير «تزفيتان تودورف» لهذه المسألة، بعد سنين من انحيازه إلى تأويل النص الأدبي من داخله، لكشف جمالياته منبت الصلة عن السياق الذي أنتج فيه، فألف كتابه «الأدب في خطر» ليصحح مساره، ويؤكد أن محاولة تفريغ الأدب من أي مضامين قيمية، والتعامل معه على أنه فقط «تشكيل جمالي للغة» أدى إلى انصراف الناس عنه. يبقى أن الأدب يجب ألا يفقد «أدبيته»، أي بلاغته وشاعريته وصوره ومفارقاته وقدرته على جلب الاندهاش، حتى وهو يتناول أكثر القضايا تسييساً أو تفلسفاً، ولذا فأسلوب الأديب يجب أن يبقى مختلفاً أو مبتعداً، بقدر المستطاع، عن اللغة التقريرية التي تكتب بها القصص والحكايات في صفحات الحوادث، أو تلك اللغة الجافة المحايدة الخالية من أي شحنات عاطفية التي يكتب بها الأكاديميون مراعاة للحياد والموضوعية. لقد قرأنا ذات يوم على صفحات أخبار الأدب واقعة اغتيال ثانية لنجيب محفوظ، فالأولى كانت خشنة عنيفة حين طالت عنقه طعنة سكين من يد شاب متطرف لم يقرأ له حرفاً، والكل يعرفها ويذكرها. والثانية ناعمة وأشد عنفاً حين قال أديب مصري شاب لم ينتج سوى رواية واحدة عابرة: «لم أقرأ شيئاً لنجيب محفوظ ولا حاجة لنا لمعرفة أي شيء عن رواياته وقصصه، فقد فات أوانه ولم يعد له بيننا مكان» وهذه لا يعرفها إلا قلة ولا تذكر إلا قليلاً. ولا أريد هنا أن أُذّكر بالحكمة السابغة التي تقول: «من جهل شيئاً عاداه»، ولا بالبقاء المستمر والمغالبة الدائمة التي تتمتع بها أعمال شكسبير وبلزاك وتولستوي، بل أشير إلى أن نجيب محفوظ نفسه، الذي سيظل يُقرأ بعناية وشغف في الأزمنة المقبلة، لأن أعماله فضلاً عن جمالها الأخاذ تنطوي على رؤى وقيم عميقة. لقد اعترف كثير من النقاد أن الثورات قد فعلت بهم الكثير، إذ رسخت أقدام من لم يفارقهم الإيمان بالقضايا الكبرى، ووضعت أقدام من فارقهم هذا الإيمان أو لم يدخل قلوبهم وعقولهم أبداً من قبل على أول الطريق. وقد بان للجميع أن الشعوب العربية ليست حقل تجارب للأدباء يلتقطون منها ما يصلح أبطالاً لقصصهم ورواياتهم، بل هي الملهم والمعلم والمرجعية، وهي النص الأصلي واللوحة الأساسية التي تغطي كل الجدران.