قالت باحثة تركية في ندوة أكاديمية أقيمت في برلين حضرها ونقل ما دار فيها أحد الأكاديميين الإماراتيين، إنه إذا برزت دويلات طائفية على أنقاض «سايكس -بيكو»، فإن تركيا ستتعامل مع الأمر الواقع، فلا توجد خطوط حمراء بالنسبة لتركيا في منطقة تعيش حالة سيولة وفوضى. وواضح أن الكلام هنا عن التعامل مع «الدواعش» الذين أزالوا بالجرافات أجزاء من الأسلاك الشائكة والسواتر الترابية التي تفصل سوريا عن العراق، فحتى لو لم يعبّر هذا الكلام عن الموقف الرسمي لبلادها، فموقف أنقرة من «داعش» ملتبس، وهو في أوضح حالاته لا يقف ضد هذا التنظيم بالشكل الذي تقف فيه دول أخرى في المنطقة. والكلام هنا ليس عن تركيا وإنما عن فكرة الخطوط الحمراء لدى الدول التي يعوّل عليها العالم في حفظ أمنه وسلامه واستقراره، أعني المجتمع الدولي الذي يعبّر تحديداً عن الولايات المتحدة وحلفائها، والاعتقاد السائد بأن هذا المجتمع الدولي لا يسمح بتجاوز الخطوط الحمراء، كقيام عصابة إجرامية بالاستيلاء على مساحة من الأرض وإعلان دولة بقوة السلاح، وهو الاعتقاد الذي قد يغرر بالدول الصغيرة ويجعلها ترتب وضعية الوسادة وتضع رؤوسها وشعور مطمئن يغمرها بأن من حولها سياجٌ من الخطوط الحمراء. فكرة الخطوط الحمراء في السياسة تنبع من موقف أخلاقي في الأساس، بينما السياسة تقوم على مبدأ المصالح، و«المجتمع الدولي» كمسمى لتجمع دولي تقوده أميركا، يقوم بأداء دور الخطيب المفوّه المندّد والمستنكر كلما تم تجاوز خطوطه الحمراء، وأحياناً يفرض بعض العقوبات التي تؤلم الشعوب أكثر من غيرها، وأحياناً قليلة يتدخل على الأرض، كما حدث عند احتلال دولة الكويت. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للدول التي تصف نفسها بأنها جزء من المجتمع الدولي، فما دامت مصالح تلك الدول مؤمنة، فيمكن التغاضي عن مسألة الخطوط أو إعادة ترسيمها على ضوء المستجدات أو الكلام عن الواقع والسيولة والفوضى، خصوصاً إذا كانت كلفة التصدي للمتجاوزين باهظة. وقد أثبتت دول ذلك التجمع الدولي في مرات عدة أنها تعمى عن كل الخطوط الحمراء، وتنيخ ركاب مصالحها على أرض الواقع، كالقبول بحكم الملالي في إيران، والقبول بـ«طالبان» لولا العناد في قضية تسليم «بن لادن»، وتجاهل ما يحدث في كوريا الشمالية، وما يحدث في سوريا، وما يحدث بطبيعة الحال للفلسطينيين منذ 80 عاماً. سنة بعد أخرى يثبت هذا العالم أنه ليس كما قد نتصوّره، خاضع لقانون دولي ينظم العلاقات بين دوله، ومحكوم بمواثيق واتفاقيات تتعلق بحقوق الإنسان، وأن المجتمع الدولي واقف كالليث يراقب الالتزام بكل ذلك. العالم ليس غابة، والمجتمع الدولي لا يمكن الاستهانة بدوره في حفظ الأمن والسلام والاستقرار، ومع هذا لا محل للثقة بالدول الكبرى أو الحليفة، فبين غفوة وانتباهتها قد «تبيع» تلك الدول خطوطها الحمراء إذا ضمنت مصالحها، مع استمرارها بطبيعة الحال في التنديد والاستنكار، والعاقل من ينام في هذا العالم وسلاحه تحت وسادته.