«المتشائم يشكو من الرياح، والمتفائل يتوقع أن تغير الرياح الاتجاه، والواقعي يُعدِّل الأشرعة». بهذه العبارة المجنحة يستَّهلُ العالم العراقي سمير ريحاني بحثه في مؤتمر «رابطة السياسة والإدارة العامة في منطقة الشرق الأوسط». يبدأ المؤتمر أعماله غداً في مقر الجامعة الأميركية ببيروت. و(أقل مِن «لماذا» وأكثر مِن «كيف») عنوان جلسة المؤتمر، التي يقدم فيها ريحاني برنامجاً للبحث والعمل ينقل علوم السياسة والإدارة العامة من التعامل مع واقع منظم، تحدد أسبابُه نتائجَه إلى واقع معقد تحكمه قوانين فيزياء الكم، ونظريات الشك، والاحتمالات، والفوضى. والعالَمُ العربي الحالي مختبر هائل لعمل قوانين التعقيد، مثل «قانون الفراشة» المشهور الذي يقول، إن خفق جناح فراشة في الصين قد يحدث أعاصير مدمرة في أميركا. تَحَقَق هذا أمام عيون العالم عندما أضرم بائع الخضروات في تونس محمد البوعزيزي النار في نفسه، وأعقبه إضرام عشرات الشباب العرب النيران في أنفسهم، ولم تتوقف إلى الآن حرائق «الربيع العربي». وفيما تعجز علوم السياسة عن تفسير دوامة الأحداث، تقاربها علوم فيزياء التعقيد، التي تدرس ظاهرة الدوامة في دينامية الموائع. فجزيئات الماء المتدفق في حوض الحمام تشكل نظاماً معقداً يمكن التنبؤ بحركته طالما يتدفق الماء، لكن ما إن يُلقى بحجر في الحوض، حتى تنبثق دوامات تتفاعل مع جزيئات الماء فينشأ الاضطراب، ويصبح تدفق الماء وحركته غير منتظمين، وينبثق عنهما نظام معقد. أمثلة عدة من علوم تعقيد الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والهندسة الإلكترونية، يشرحها ريحاني في أحدث كتبه بالإنجليزية، وهو «التعقيد والإدارة العامة»، وفيه يقدم «مقاربة جديدة للسياسات والإدارة والمجتمع في القرن الـ21». وريحاني نفسه نموذج فريد لتعقيد الوضع العربي، فهو أكاديمي عراقي مسيحي مغترب، يشغل منصب المدير التنفيذي لمنظمة الصحة الأولية في ليفربول ببريطانيا، ناهض بشدة احتلال العراق، فيما كانت دبابات الغزاة تحمل زعماء أحزاب إسلامية إلى سدة الحكم في «المنطقة الخضراء». وفيزياء الوضع العربي المعقد تحكم مفردات مؤتمر بيروت بدءاً من موضوعه الرئيسي، «حوكمة القطاع: إعادة النظر بالتصميم وإدارة الإصلاح»، وكلمة الافتتاح «إصلاح القطاع العام: الأساطير والوقائع ومناوبتهما، دروس من تجربة لبنان»، ومحاور جلساته: «تحليل المجتمع المدني.. النجاحات والإخفاقات»، و«تعليم الإدارة العامة»، و«اللامركزية: التنفيذ والأداء»، و«المجتمع المدني في الشرق الأوسط: الإطار الوظيفي»، و«الحكومة والمجتمع والسياسات العامة»، و«الحاكمية: المؤسسات والعمليات»، و«المجتمع المدني في الفترة الانتقالية: الديناميات والتحشيد»، و«اللامساواة في الشرق الأوسط»، و«تنفيذ الخدمة العامة: محددات الفاعلية»، و«التنمية والصَدَقه: الأخلاقيات والآثار والوقائع»، و«إدارة الكوارث وسياسات اللجوء في الشرق الأوسط»، و«التغيير والإصلاح: الاحتجاجات والأولويات»، و«مجتمعات منقسمة: المجتمع المدني والصراع والعواقب». وقوانين التعقيد وحدها قد تفسر كيف تضاهي النساءُ المقصيات عن مراكز صنع القرار الرجالَ في عدد ونوعية بحوث مؤتمر بيروت: بحثُ تمارا العون «تحديد مفاهيم المجتمع المدني في الفكر العربي» ، وبحثُ سَحَر فرنجيه «إنشاء قادة المستقبل»، وبحثُ كارمن جحا «الترابط المديني في المحتوى الطائفي»، وبحثُ مُنى حرب «لماذا أداء بعض السلطات الإقليمية والمحلية أفضل؟»، وبحث فَرَح ضياء الصفار «ربط الخدمة العامة والحوكمة»، وبحثُ أميره جادو «الدور التنموي لجمعية الصلاح في القرية المصرية». والقاسم المشترك بين البحوث ما تقول عنه الروائية الفرنسية مارجريت يوسنير «عندما يتناقض نصّان، أو جَزْمان، وربما فكرتان، كن مستعداً للتوفيق بينهما بدلاً من إلغاء أحدهما الآخر، اعتبرهما وجهان، أو مرحلتان لنفس الواقع، واقع إنساني مُقنع وبالغ التعقيد فحسب». وأجمل تعقيد في لوحة الفنان العراقي نزار سليم، «خَدْري الشاي» التي تصدّرت صفحة الموقع العربي لمؤتمر بيروت. فالفن عبقرية الإنسان في التعبير البسيط عن أعقد مشاعر البصر والحس والشعور والحب. جميع هذه المشاعر تعبر عنها صورة العراقية التي تميلُ بقدح الشاي على عراقي بشاربين، يرتدي لباس الرأس التقليدي. وبين الاثنين يتوهج كالحب «سماور» إعداد الشاي على الطريقة العراقية بالغة التعقيد. فالعراقيون لا يُغلون الشاي، بل «يُخَدِّرونه»، والأغنية الشعبية المشهورة التي استوحاها سليم تقول: «خَدْري الشاي خَدْريه، عيوني إلمن اخدره، وشلون أصفي الماي وشلون أَفَوْره، هيهات أخدر الشاي بيدي وأشربه، من بعد عين هواي إلمن أصبّه»؟ ------------------------- *مستشار في العلوم والتكنولوجيا