تناقلت وسائل الإعلام نبأ التحضير لمظاهرات إخوانية حاشدة في 28 نوفمبر الماضي، وأتى اليوم الموعود ولم تهتز القاهرة بالحشود، بمعنى لم يعد «رفع المصاحف» مجدياً ومؤثراً لشأن سياسي. فرفع الكتاب الكريم سياسياً وتوظيف قدسيته حصلت كثيراً، كشعار رُسم على واجهة مقرات تلك الأحزاب أو راياتها، وليس أشهر مِن شعار «الإسلام هو الحل»، وإلى جانبه «القرآن»، أو الوقوف أمام المحاكم مع رفعه بوجوه القضاة. إنها ممارسة اقتبست من الماضي البعيد، مِن دون النظر في اختلاف الأزمنة، واستحداث السياسات، وهذا ينبئك أن الإسلاميين لم يجددوا في أساليبهم، وإنما ظلوا حبيسي صفحات التاريخ، ليس لهم القدرة على التفريق بين حدث عمره ألف وأربعمائة عام، وآخر يحصل في القرن الحادي والعشرين، ظلوا يتعاملون مع المواطن خارج الزمن، يحاولون جذبه بالمقدس. فلو قرأت عناوين صحف الجماعات الإسلامية لوجدتهم ينتقون الآيات القرآنية لها، ولم يفتتحوا خطاباً بلا نص قرآني. لم يحصل هذا بلا عناية وتفكير على أنه مازال السلاح المجدي، لا مِن أجل تكريس النص القرآني في أذهان الناس خدمةً للدين؛ وإنما خدمة للحزب أو الجماعة، فمَن سمى صحيفته «البلاغ» يقتبس لها الآية: «هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (إبراهيم: 52)، ومَن سمى صحيفته أو حزبه بـ«الدَّعوة» وظف: «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (يوسف: 108)، ومِن سماها بـ«النذير» وظف الآية المناسبة لذاك. بمعنى أن تلك الآيات الكريمة صارت تؤدي وظيفة بالنسبة للإسلاميين، منها بقصد التَّرغيب ومنها بقصد التَّرهيب. فمن يعترض على نص قرآني ورد كشعار في صدر الصحيفة أو موقع الحزب؟ كان الإعلان عن رفع المصاحف في مظاهرات (28 نوفمبر) يشمل القصدين، الترغيب فيهم والترهيب بها، بفكرة أن منع المتظاهر (رافع المصحف)، لغرض أمني أو خلافه سيراه النَّاس على أنه منع وحجب وإهانة للنص المقدس، وكم مِن قوى سياسة اتهمت قوى أخرى بحرق صفحات الكتاب أو تمزيقها، كي يكون الهتاف المحرض «الدِّين يا محمد»! مع ذلك أسفرت الدعوة للتظاهرات برفع المصاحف عن فشل ذريع، وهو على ما يبدو آخر سلاح بيد الإسلاميين يستخدمونه ضد خصومهم، أو فيما يرجونه مِن سياسات. قلنا: إن ممارسة «رفع المصاحف» منتقاة مِن الماضي، بلا حساب لتبدل الزمن، واختلاف طبيعة النزاع، ولا حساب القرب مِن صدر الإسلام آنذاك، ومع ذلك فقد اُنتقدت تلك الممارسة في وقتها، وفسرت بأنها مورست لغرض آخر، وهو طلب التمكن والفوز في المعارك. والمشهور تاريخياً أن رفع المصاحف حصل في معركة صفين (37هـ)، لكن هناك مِن يروي أنها رُفعت قبل صفين بالبصرة، حيث المعركة التي سميت بـ«الجمل«(36هـ)، وحينها قُتل كعب بن سور وهو يرفع مصحفاً لحقن دماء الفريقين (الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك)، ذلك عندما بادر علي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ) إلى إرجاع الناس إلى حكم القرآن، وإلقاء الحجة الأخيرة على خصمه في المعركة، فقال لأصحابه: «مَنْ يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه وهو مقتول؟» (المصدر نفسه)، فرفعه فتىً قطعت يده اليمنى ثم رفعه باليسرى فقطعت وقتل، وبعدها حصلت الحرب. أما قصة رفعها بين أهل العراق وأهل الشَّام، فمشهورة ولا تحتاج إلى تفصيل، وقد أدت إلى قسمة المسلمين إلى ثلاثة جيوش، الثَّالث هم مَن أطلقوا على أنفسهم «الحرورية»، أو «الشُّراة»، وعرفوا في التَّاريخ بـ«الخوارج»، وقد رُفعت حينها صحف ورقاع وليس مصاحف بين دفتين، كما يرفعها الإسلاميون في الوقت الحاضر. إن مشهد رفع المصاحف في وقتنا الحاضر يشير إلى درس بليغ، وهو أن الممارسة لم تعد مجدية كسلاح بيد الإسلاميين، مثلما لم يعد شعار «الإسلام هو الحل» جاذباً، وعلى وجه الخصوص بعد تسلم الإسلاميين السلطة في أكثر مِن مكان، ولم يحققوا شيئاً مما في المصاحف، وهي تجارب معروفة، ظهر أنها لا تختلف عمَن تسلموا السلطة بشعارات القومية والعدالة. أحسب أن يوم (28 نوفمبر) كان يوماً فاصلاً، فـ«القرآن، إنما هو خطٌ مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان، ولابد له من ترجُمان، وإنما ينطق عنه الرجال» (نهج البلاغة)،علينا بما ينطقه الإسلاميون وهم يرفعون المصاحف.