تحتفل دولة الإمارات العربية المتحدة بذكرى تأسيسها الثالثة والأربعين؛ ويوم بعد يوم يزداد البناء ويرتفع، وتضيق مساحات الرِّمال العطشى بظلال حيطان وأغصان أشجار، ويستبدل ماء البحر بعد تحليته بالبئر، ولم يبق من مشاهد تلك الأيام إلا ما أُريد له أن يبقى ذكرى، لتراه الأجيال المترفة بالنعمة كي تصونه وتسهر على نموه وسط عالم متغير. فالعمران لا يحسنه كلُّ أحد إلا مَن له القدرة على المصالحة بين العقل والثروة، وكم ثروات صرفت في الخراب حتى لم تبقِ بقية إعمار؟ عندما نقول «العمران» نعني به كمصطلح حضاري مقابل الخراب، وهو لا يقتصر على العمارات والمنازل والقصور، وإنما عمران النُّفوس أيضاً، عبر ثقافة القانون والتسامح الاجتماعي. يتبين لك هذا من حركة المرور إلى احترام المرأة والطفولة والشباب، وفرادة هذا التَّأسيس في عصرنا الحاضر أنه بدأ من الصفر. فمَن زار هذا المكان في الأربعينيات أو الخمسينيات وحتى عقد الستينيات، وحده يقدر تلك الفرادة. هذا ما سمعته مِن بعضهم. في أول زيارة إلى دولة الإمارات كتبتُ مقالا: («الشرق الأوسط»/ 21 مارس 2007)، جاء فيه: «تقدمت الإمارات في العمائر والطُرق. وأنت تقطع الطريق بين أبوظبي ودُبْي كأنك تقطع ما بين باريس ولندن. ومعلوم أن درجة التحضر والثقافة تُقاس إلى حد بعيد بضوابط المرور. لكن، مع ذلك لم تدعك الصحراء أن تتناساها؛ فالأسماء التي نُقشت على الطريق، والأشجار التي صفت وهي تعاند العطش، وغبرة الرمال فوق الاخضرار، تقول لك إن المكان كان صحراء عطشى. ومن أول الأسماء الوفية لبيئتها الأولى العاصمة، اسمها القديم أم النار. سألتُ عن ماء الشرب، فقيل: من البحر! ولأني ابن الماء العذب، الذي جفف في التسعينيات فمات حيوانه ونباته النادر في الدنيا، أخذني العجب أن الإنسان يحيى ويُعمر كل هذا العمران وهو يشرب من بحرٍ»! لكن بعد سبع سنوات تغيرت المعالم واتسعت الأرض الخضراء، وتأسست مدن ثقافية وأخرى سياحية، ودخلت الطاقة النظيفة في إضاءة الطرقات الفسيحة؛ وازداد عدد الوافدين أضعاف مضاعفة، فليس هناك مطارات مزدحمة بالمنطقة مثل هذه البلاد. هذا المشهد بحد ذاته يختصر لك قصة العمران. كلُّ هذا كان حلماً لرجل آزره رجال، وبدأ يرسمه ويخطط له في الرمل بالعصا، بدأ بالمدرسة، وحماية الشجرة والطير بقانون لا تهاون فيه، وإحياء الأرض بمغارس عمارات ونخيل.. ترافق ذلك سماحة وهمة وصبر على هجير الظَّهاري، فمَن يتخيل الظل واقعاً، ويعمل لإيجاده تهون عليه المشقة لتحقيق حلمه، هكذا كان المؤسسون. على الحقيقة لا المجاز، والبلاد تحتفل بذكراها الثالثة والأربعين، صارت مضرب المثل في النظام والعمران والتعليم ووفرة البضائع وجودة الخدمات. استعرت لعنوان المقال العبارة مِن الفقيه سفيان الثوري (ت 161هـ): «إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد». وأقول: العمران لا يحسنه كل أحد. بحاجة لعقل وروية وجرأة على تجاوز الصعاب، وما أصعب وأعجب تأسيس المدن والبلدان، فالأقدمون عندما وقفوا على ما تبقى مِن آثار المدن القديمة، وهي بيد البلاء نهب، كسومر وبابل وغيرهما، لم يستطيعوا حل لغز عمرانها، فقالوا إن ذلك من العجائب. لست وحدي اعترف بعجيب ما شُيد من نوع عمران وإنسان بين جرف البحر المالح ورمال الصحراء العطشى.