أذكر أن أول ظهور بارز للمفكر الأفريقي العربي «علي المزروعي» في العالم العربي، إنما كان في «الشارقة»، خلال ندوة عن العلاقات العربية الأفريقية، وذلك عام 1976، في مدرج سيحمل فيما بعد اسم «قاعة أفريقيا». يومها كانت المكاشفات الكبرى حول ظروف المأزق الاقتصادي الأفريقي، مع قفزة أسعار البترول عالمياً، وتوجيه الإعلام العالمي أصابع الاتهام لـ«البترودولار» العربي في إحداث الأزمة، والضغط النفسي والإعلامي على العرب لمعالجة ما قيل إنهم أحدثوه من أزمات تقف وراء رخائهم العظيم! وربما تكاد الحملة في حينه تشبه حملاتهم الحالية حول الإرهاب «العربي» أو «الإسلامي» في الأزمة العالمية القائمة على الأرض العربية! يومها بدأ «علي المزروعي»، ينتبه لعروبته، إلى جانب أفريقيته، منتقلا من عالم النقد السياسي الشامل للزعامات الوطنية الأفريقية، من «نيريري» إلى «نكروما»، بل وجماعات «اليسار المتطرف»، فضلا على هجومه على الزعماء المستبدين مثل «عيدي أمين» وغيره.. إلى بناء خطاب تحليلي جديد حول علاقات القوة وتواشج الثقافات، وكأنما كان ينتقل من مجال نقد مناهج السياسة التنموية «الموجهة»، وهو ابن مدارس التحديث الليبرالية الغربية، إلى مجال العلاقات الدولية، بإطارها الثقافي الذي كان يشهد حدته بين الشرق والغرب خلال الحرب الباردة، وحتى في دوائر «اليونسكو» نفسها. وبسبب معارك «علي المزروعي»، الفكرية والثقافية منذ ذلك الحين، اصطدم بشباب العلوم السياسية الأفريقية، وكنت وسطهم –ساعتها- مع «محمود ممداني» و«آرشي مافيجي»، «وعبد الله باتيلي».. كنا نعتبره المعلم، المحافظ، والليبرالي الذي يركن إلى مقاعد العلوم الغربية في أكبر جامعاتها، في ميتشجان وأكسفورد.. خاصة مقعده في «مركز الثقافة العالمية»، مع اشتباكه الدائم بقضايا عالم الجنوب. انشغل «المزروعي»، إلى جانب معاركه السياسية تلك، عقب ندوة «الشارقة»، وأطر الأزمات العربية والإسلامية بعد ذلك، بشواغل الثقافة العربية الإسلامية نفسها، وبات «حالة أفريقية عربية». لقد راح «المزروعي» في معظم كتاباته يخرج عن كونه من أصل عربي في أفريقيا، لأنه يرى ببساطة أن «ميراث أفريقيا الثلاثي»، من الثقافات المحلية والإسلام والمسيحية، إنما «يشكل حالة اندماجية وليست تراتبية، وأن الإسلام والعروبة هما الأوسع حضوراً في القارة، مع الثقافات الوطنية، بل إن التنويعات في عناصر الثقافة الإسلامية والعربية تتيح الكثير من التلاقي بين العرب والأفارقة». وهنا يحذر المزروعي من الميل إلى اختلاق أي تصادم بين الأفارقة وعالم المسيحية الغربية، منعاً لرفض الآخر، لاسيما أن أفريقيا لم تتغلب إلى اليوم على تركة الاستعمار الغربي، وحروبه العالمية وتوجهاته الاستبعادية، من نازية وشيوعية، وتهريب وتقسيم وفساد.. وهو ما لم تعرفه علاقة القارة بالعرب والإسلام. ومن خلال مقولة شهيرة له عن «الأفرابيا»، أو علاقة العرب الاندماجية مع الأفارقة، تجاوز «المزروعي» معظم قضايا الصراع عن الرق، أو ثورة «زنجبار»، أو آثار الكاريزمات السياسية.. لأنه رآها جميعاً من داخل عملية التفاعل الثقافي الأفريقي العربي متعدد الجوانب. لقد أدى جدل «علي المزروعي» مع قضايا «فوكوياما» إلى كشف روح الهيمنة في الثقافة الغربية، كما أدى جدله الحاد مع «هنتنجتون» حول صراع الحضارات إلى كشف ما تتسم به الثقافة الغربية من انحيازات، لم يحدث لها مثيل من قبل الثقافة الإسلامية حين كانت مهيمنة. وكانت للمزروعي مواقف طريفة في قضية حديثة، مثل قضية «الجندر» أو النوع الاجتماعي، وحقوق المرأة، وكيف أن المرأة كانت في أفضل وضع في أفريقيا ما قبل الاستعمار، خاصة في ظل حضور الثقافة الإسلامية، لكن وضع المرأة تخلّف وسادت الذكورية الطاغية بعد ذلك مع دولة الاستعمار وصعود القوى المحافظة. وكانت تحالفات الجنوب، وخاصة التحالف العربي الأفريقي، في أصل اهتمامات المزروعي، وهو الذي كتب منذ أكثر من عقد حول التعاون العربي الأفريقي وطرح مقولة «أفرابيا» نفسها، مؤكداً مسؤولية الأفارقة، مع العرب، عن التنمية في أفريقيا. فليس العرب وحدهم مانحي المساعدات، لأنه يمكن دائماً مزج موارد أغنياء العرب والأفارقة لسد حاجات الفقراء في كل من أفريقيا والعالم العربي، تحت إدارة عربية أفريقية مشتركة. لذلك نقول إن علي المزروعي كان بحق حالة أفريقية عربية أصيلة ومكتملة.