نقلت بعض وسائل الإعلام الجادة أنه قبيل مقتل أبومصعب الزرقاوي، كان ثمة عالم شرعي من مجاهدي العراق اسمه أبو عبدالله محمد المنصور العيساوي، قائد جيش المجاهدين منذ عام 2003 إلى حين دخوله السجن عام 2005، يجتمع بكل من الزرقاوي (زعيم التوحيد والجهاد)، وأبوحمزة المهاجر (مندوب القاعدة)، وأبوعمر البغدادي وأبوبكر البغدادي (الخليفتان المقبلان)، وكان يجتمع بعض هؤلاء أو جميعهم في منزله الخاص، ويخوض نقاشات فكرية في التكفير مع أبوحمزة والزرقاوي، في حين يدرس عنده أو عند بعض الشرعيين من زملائه أبوعمر البغدادي وأبوبكر البغدادي بعضاً من الدروس الشرعية. وهذا الشيخ العراب الشرعي لهؤلاء، كما اعترف به منتمون إلى «داعش» و«القاعدة» في نصوص موثقة لهم، كتب في كتابه الأخير الذي نشر بعنوان «الدولة الإسلامية بين الحقيقة والوهم» واصفاً هذه الشخصيات بأنها «ليست على درجة واحدة في الغلو»، موضحاً أن «كثيراً من قيادات التوحيد والجهاد (العراقية) التي كان يتزعمها الزرقاوي أقل غلواً بكثير جداً ممن أتى بعده، وغالب خلافاتنا معهم آنذاك في السياسة الشرعية»، مشيراً إلى أنه (أي الزرقاوي) كان يكفر على «لون الملابس» «أما أبوحمزة المصري فكان ذا عقلية غريبة، وفي عهده توسع الغلو إلى حد كبير»، ويضيف قائلاً: «أما أنا فإنني أشهد الله الذي لا إله إلا هو بما أعرف عن قرب هذا الدعي الذي سمى نفسه أبوبكر البغدادي، وقد درس عندي مع مجموعة من الفضلاء شيئاً قليلاً من كتاب زاد المستقنع في عام 2005، ثم انقطع الدرس بسبب اعتقالي، وعرفته معرفة دقيقة، وكان محدود الذكاء، بطيء الاستيعاب، باهت البديهة، فليس هو من طلبة العلم المتوسطين، ودراسته دراسة أكاديمية في الجامعات الحكومية ومستواها هزيل جداً، والتي لا علاقة لها بتكوين طالب علم فضلاً عن عالم». انتهى كلامه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم...ولقد يتخيل إلى من يستمع إلى هذا الشيخ وإلى كلامه أنه متماسك في ذاته متوافق مع منطقه، مع أنه هو وأمثاله الذين تتلمذ عليهم هؤلاء «الداعشيون» و«الجهاديون» التكفيريون، فهم في سلة واحدة وإن كانوا على درجات متباينة في غلوهم وتكفيرهم وتقتيلهم فهم في دائرة الإرهاب سواء تختلط عندهم الأغراض السياسية بالأهداف الدينية والجهادية، وهو أمر خطير يؤثر تأثيراً كبيراً على الدين والسياسة والمجتمع والأفراد. والتيار الذي يتركب من كل هذا التنظير الفكري الخطير يكتسب من ضيق الأفق شدة، ويزداد من ضحالة الفهم صلابة، وينال من كثرة المغالطات، وهما بالصحة، لسان حاله العاثر يقول: من ليس معنا فهو علينا... ولقد قام بتحليل تياراتهم وتيارات الإسلام السياسي، بعلمية وأكاديمية متميزتين، الدكتور جمال سند السويدي في كتاب سيصدر له في الأسابيع المقبلة وحصل لي شرف قراءته سماه «السراب». والكتاب لا مثيل له، تنمو فيه الأقوال بالحجج والشواهد من الآيات والأحاديث، ويضرب فيه الأمثال والعبر من الأمم والأمصار. ويتسع للدول فيها النطاق والمجال، وفي باطن الكتاب نظر وتحقيق، وتعليل للمجتمعات السياسية الحقيقية ومبادئه دقيقة وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لهذا أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق. والإشكالية الكبيرة التي ينطلق منها الكتاب تُختزل في ما يلي: «لماذا استطاع الغرب في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي فصل الدين عن الدولة، بينما نرى في الدول العربية والإسلامية، وفي القرن الخامس عشر الهجري تحديداً، إصراراً ومحاولات دائبة من الجماعات الدينية السياسية لاستغلال الدين- من خلال مزجه بالسياسة- لتحقيق مآرب حزبية وشخصية؟ لماذا تقوم هذه الجماعات باحتكار تفسير الدين، وتروج لمفاهيم غير واقعية، مثل الخلافة والبيعة، ويذهب العديد منها إلى تكفير مخالفي الرأي وقتلهم، مخالفة بذلك أسساً ومبادئ رئيسية، تم ترسيخها بالدين الحنيف الذي يسعى إلى غرس أسس الوسطية والاعتدال؟». وهذه الإشكالية هي بوابة محكمة لفهم ما استغلق فهمه على الخاص والعام، لأنها تُطل على مجمل ما يمكن أن يعرف عن المجال السياسي فهماً وتحليلاً وتنظيراً ونقداً واستشرافاً ومقارنةً، ويمكن أن تبنى عليها سياسات عمومية من الدول، بل ويمكن أن تكون فاتحة خير حتى للإسلاميين أنفسهم، الذين ساروا في واد غير ذي زرع، إذا هم قبلوا النقد الذاتي، وإعادة بناء الأفكار والمعتقدات، ومن هنا قيمة هذا الكتاب المجسد لعبقرية الإنسان الإماراتي لإخراج الأمة من المتاهات التي وصلت إليها بعض من مكوناتها.