إن إيديولوجية الأمن القومي العربي ومستوياته وأبعاده متباعدة لدرجة يصعب معها تحقيق حلم وحدة الأمن العربي؛ فمن تقسيم العمق العربي الكبير لوحدات سياسية متناحرة في العلاقات الثنائية والمتعددة، انتقالا إلى تجفيف مصادر التنمية الشاملة وضعف مقومات البقاء النوعي وحماية كيانه واستقلاله ذاتياً، وغياب منظومة مشتركة لاستشراف التهديدات التي تواجه الأمن القومي العربي. يتمحوَر جوهر المسألة حول القُدرة على الابتكار وعدم النمطية والتنبؤ المنهجي التكاملي بالمستقبل، وقبل ذلك تهيئة الشعوب العربية وحكوماتها لإدراك ماهية التهديدات لاتخاذ التدابير اللازمة لدرئها ومعالجة جذورها. فهنا يكمن بيت القصيد، نظراً لطبيعة تلك المنظومة في العالم العربي، ونُدرة الكفاءات المُؤهلة والمستقلة لدعم القرار بحيادية، في ظِل سطحيّة وانتقائية مخرجات أكثر مراكز التميز البحثية الحكومية وشبه الحكومية في الوطن العربي، والتي تعمل كمحطات دِعائية أكثر من كونها مراكز للفِكر والبحث. إنه زمن حلت فيه ثورات «الربيع» الذي حلّت خلاله الوجوه المقنعة والتماثيل الصوتية محل الأنظمة السياسية المعاصرة وصوت العقل والحكمة، وكأنه لم يكفينا زمن طويل من التصفيق لأبطال من ورق، إرثها الملموس حيال الدمار الذي تركته في ثقافة الشعوب. فقد رحلوا وبُلدانُهُم بأشد المِحن التي مرت عليها عبر التاريخ، حيث رجعت 50 سنة إلى الوراء، بعد عقود من اللعب على قيثارة تمكين الفلاح، وإقامة الصناعة، وفرض الهيبة، وبناء أقوى جيش، وامتلاك الأسلحة الفتاكة، وترويج الشعارات القومية والمذهبية وأبواق الجهل.. فأي لعنة حلت بالعقل العربي في قرون القهر والتراجع. ومن جانب آخر فإن السلاح السياسي الأكثر فتكاً وفعالية في عالمنا العربي هو تأجيج المشاعر السلبية وخلق الذرائِع لانتهاك كل قيمة إنسانية، باسم الدين أو حلم الوحدة على أساس قومي أو حُلم دولة الخلافة.. فكل شيء يبدأ مع الإرهاب المعنوي، وحملات الخداع والوهم التي تهدف إلى تشويه سُمعة وتخريب مفهوم الدولة المدنية ومبدأ المُواطنة.. ووضع تِلك المفاهيم في قالب يُمنع الخروج منه، ومن يتجرأ ويفعل ذلك يُنعت بأبشع الأوصاف والتهم، منعاً لأي تنوير سياسي أو فكري أو اجتماعي. ويجد سُكان المنطقة العربية اليوم أنفسهم في مأزق مُتفاقم، فالتغيير بحد ذاته أصبح بمثابة خطر رئيسي لا يستحِق كل هذا العناء، بينما أصبح الاستقرار والأمن الهدف رقم واحد للشعوب العربية، مع شعور لدى البعض باللامبالاة واقتناع بأن السياسة عبارة عن رسوم كاريكاتورية الغرب وحدهُ من يجيد رسمها وهو وحدهُ من يضحك أمامها غير مبالٍ بشعور الضحايا. ويبدو لي أن أكبر التحديات التي ستواجه دُول الوطن العربي مستقبلا هي الإرهاب العابر للقارات، وعولمة العُنف الأيديولوجي، وصراع المفاهيم والهويات، والتنافر بين قشور القيم الأخلاقية الدينية والإنسانية وثورة الإنترنت والاتصالات، والتقهقر المعرفي والبحثي، ونضوب الاقتصاد الأحفوري ومحاصرة أسواقه جيوسياسياً وجيواقتصادياً. ولعل لُب القضية يكمن في أن العالم العربي يدفع ثمن القرن العشرين، وما ترسخ خلاله من عقبات في تاريخ المنطقة وجغرافيتُها، والفئوية السياسية والبطء الشديد في تطور المجتمع فكرياً وفي سلوكه الحضاري وصعود النزعة الفردية، والنظر خارج الثقافة العربية لمُثل عُليا في جميع الجوانب، مما انعكس سلباً على المجتمع ككُل. وتجلى ذلك في انخفاض قدرة العرب على صياغة الأحداث، وتحول «الربيع العربي» إلى «خريف إسلامي» ثم «شتاء رجعي»، والسماح بسقوط المنطقة في هاوية خليط من الجمود والفراغ والفوضى. عندما تكون عقيدة خصمِك أن الهجوم خير وسيلة للدفاع، لا جدوى من اعتناق عقيدة دِفاعية لتحقيق الأمن الوطني للأمة العربية بعيداً عن الوحدة والتكامل والوفاق العربي، لأن 90% من حواجز الأمن والحماية الحالية لحماية العالم العربي مطاطة ومحدودة وتغلب عليها مصالح الأمم الأخرى ولا يتحكم العرب بمصادرها واستدامتها وتطويرها، كما يفتقر العرب إلى خطط عملية قابلة للتطبيق، وإلى تمارين وسيناريوهات الطاولة، للتعافي من الأزمات وتداعياتها، ناهيك أن المقدرات والإمكانات والنظم والقوانين والإجراءات العربية غير متكافئة ولا متناغمة لسد الثغرات في منظومة الأمن القومي العربي.