تألق الدكتور جمال سند السويدي في سفره الذي طاف به الآفاق «آفاق العصر الأميركي.. السيادة والنفوذ في النظام العالمي الجديد» معرفاً به وشارحاً له ومحاضراً على المعنيين بالبعد الاستراتيجي في تحركات دول العالم أجمع وفقاً لمقياس المصالح، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة. فمن خلال هذا البحث المتعمق يكتشف الدكتور جمال «السراب» الذي بات يلف العالم العربي والإسلامي بكل جهاته الجغرافية وتياراته السياسية وخاصة التي جعلت من الدين الإسلامي مطية يمتطيها كل ناعق باسمه، من هنا أبعد المؤلف الإسلام الحقيقي في نبعه الصافي عن التماس مع الإسلام المسيس لدى التيارات والجماعات الإسلامية التي باعت ولا زالت تبيع «السراب» للجمهور المخدوع على أنها شراب سائغ طعمها وهو في الواقع الظمأ بعينه والعطش في نتائجه. حيث يوضح ذلك الدكتور جمال في كتابه القادم في القريب العاجل «السراب»: «حالُ من ظنوا في الجماعات الدينية السياسية خيراً، كحال من خدع بظاهرة السراب التي يخيل للناظر أنها شيء وهي ليست بشيء». ولقد وفق تماماً الكاتب في هذا الوصف الواقعي لحال تلك التيارات التي باعت لأتباعها ومريديها الهواء أو الريح، التي تأبى القبض عليها مهما بذل من أجل ذلك سني الأعمار الضائعة. فالسراب قد يعني التسريب، كأن يتسرب الشيء من بين يدي الإنسان دون أن يشعر، وكذلك هذا الفكر «السرابي» الذي استعصى على الفهم، فعلاً يتسرب من بين جنبي صاحبه وهو يظن أنه باق معه ومعينه، وهو في حقيقة الأمر أصبح ضرره أكبر من نفعه على نفسه وعلى من حوله ومجتمعه، لأن جريان هذا الفكر في عروقه خدَّره فهو لا يحس واقع ما يصدر منه، وإنْ كانت جرائم تشيب من فظاعته رؤوس الولدان قبل الأوان. ومن حصافة الدكتور جمال الفكرية أنه أكد على «أن هذا الكتاب يسعى إلى نقد سلوك الجماعات الدينية السياسية وفكرها مع إدراكي التام أن هذه الجماعات ليست الوجه الآخر للإسلام الحنيف، ولا تعبر عنه لأن الاستسلام لمزاعمها في هذا الإطار إساءة لهذا الدين الحنيف، ومن ثم يسعى هذا الكتاب إلى تسليط الضوء على الاستغلال السياسي للدين وآلياته وأنماطه وعواقبه ونتائجه.. الخ». فهذا الطرح الراقي ينزه الإسلام ذاته عن ممارسة «الميكيافيلية» أو الكيل بمكيالين بإسم الدين ومصلحته عند الممارسة المعوجة لدى أتباع هذه التيارات التي تسيس الدين وتقع في ذات النقد الذي يوجه للغرب أحياناً في بعض سياساته، وإن كان الغرب قد أخرج الدين منذ قرون عن عالم السياسة المتقلبة. ومن النقاط المهمة والمحورية التي عرج عليها الكاتب في هذه الأطروحة الواقعية لخدمة المستقبل قوله: «إن هذه الجماعات على المستويين العربي والإسلامي بشكل عام، قد أصبحت محور جدل ونقاش وتخلت في دول عدة عن دورها المفترض في إيجاد حلول مجتمعية للإشكاليات، وتحولت إلى عقبة في طريق تجاوز هذه الإشكاليات». لأن هذه الجماعات تعيش حالة من الأفضلية الرومانسية مقارنة بالآخرين الذين يوصمونهم بالعاديين، بمعنى أنهم لا يشبهون أفراد هذه الجماعات التي تعطي نفسها مرتبة «إيمانية» أعلى من أي كائن آخر. وبهذه الغطرسة النفسية المتجذرة في أعماق وجدانهم وتفكيرهم لا يمكن أن يقتنعوا بأن هناك حلاً لأي إشكالية في المجتمع بعيداً عن رؤاهم المنطلقة من الدين وفي الدين وبالدين، هذا هو الوهم أو «السراب» الذي أطلق الدكتور جمال على كتابه المقبل، وقد عشعش ذلك في أذهان أفرادها لعقود، وإن ذهب بذلك أحسن المجتمعات إلى طرائق قددا كما هو حال بعض دول ما سمي بـ«الربيع العربي»، الذي انقلب على كل فصول السنوات الثلاث الماضية. فالدور الذي مارسته منذ النشأة الأولى لم يستمر لديها طويلاً، لإصابتها بإغواء كثرة الأتباع «الإمعات» التي إذا ما رفع البعض الرشيد رأس النقد لمشاريعها الدينية أو «الدعوية» أو «الإصلاحية» فمصيرها المحتوم شر طردة. ويستطرد الدكتور جمال في بعض فصول الكتاب مؤكداً على أن «وظيفة المسجد تحولت من دار للعبادة إلى مركز للتجنيد والاستقطاب لمصلحة الجماعات الدينية السياسية». ولقد تطرق المؤلف إلى محور مهم للغاية في تفسير تلك الجماعات للإسلام وتصنيفه إلى «إسلام رسمي» وإسلام آخر من عند نفسها، حيث نوه إلى أن «ثمة مفهوماً خاطئاً آخر عن الإسلام بين المسلمين أنفسهم يتصل بدور العلماء في تحديد ما يتوافق مع الإسلام وما يخالفه. ولذلك فإن تفسير العلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام يرتبط ارتباطاً وثيقاً بدور العلماء في إيجاد ما يسمى «الإسلام الرسمي»، وإسلام الجماعات الدينية السياسية. وهذا المفهوم للإسلام الرسمي أصبح يعني لدى تيارات الفكر الإسلامي السياسي هو كل ما تقوم به الحكومات والأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي من جهود تجاه ما يتعلق بالإسلام الذي يثبت على أساسه أن الدين الرسمي للدولة هو «الإسلام». وأخذت تلك الجماعات الدينية على عاتقها ممارسة دور الحسبة والرقابة على ممارسات تلك الحكومات تجاه واجبات الإسلام، وكانت تنظر دائماً إلى تلك التطبيقات على أساس من الانتقاص والإهمال الشديد، حتى جعلت من نفسها الطرف المنافس أو البديل القادم لإدارة شؤون الإسلام بعد أن تتمكن من مقاليد أي دولة أو تسلم حكوماتها كما حدث في بعض دول «الربيع» الخالي. ولسنا هنا في صدد قراءة كل جزئيات هذا الكاشف عن «السراب» الذي غرقت فيه التيارات والجماعات الدينية المسيسة وإنما ننهي هذه القراءة السريعة بجزئية خاصة عن «عقيدة البقاء» نظراً لتوافقها مع كل ما هو حديث ومعاصر في حياتنا كلها، فقد أورد المؤلف ذلك عندما قال «والإسلام هو العقيدة الوحيدة القادرة والتي تمكن الفرد من التعامل مع التباين الحاصل بين المفاهيم الجديدة وواقع الحياة الفعلية التي يعيشها، ما جعل الفرد أكثر تديناً في حياته الخاصة وحياته الاجتماعية وخلافاً لنظرية التحديث التي وضعها الباحثون الغربيون، نجد أن عمليات التحديث في العالمين العربي والإسلامي قد عززت وضع الدين بالفعل، وجعلته الحل الوحيد للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية». وهذا الكلام من قبل المؤلف جوهري للغاية لأنه يفصل بين أمرين مهمين، وهما من معاناة هذا الزمن عندما يربط البعض موجات التدين العارمة بتيارات التطرف الصارمة. فهنا يمكن وضع المعادلة المنطقية في عين الاعتبار، ألا وهي عدم وجود علاقة طردية بين تزايد تدين الفرد وبين ارتفاع نزعة التطرف لدى شرائح من المسلمين المحسوبين على أهل التدين الواعين بحقيقة تدينهم والغاية من اتباعهم هذا النهج في حياتهم الفردية أو الاجتماعية. والأمر الآخر يتعلق بانتقاد أفعال وتصرفات المغالين ليس في التدين في حد ذاته، بل في التطرف واللجوء إلى العنف قبل اللجوء إلى الحكمة والروية والتعقل والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وهي كلها وسائل لأداء أدوار فاعلة لدى التدين الحقيقي في نشر المبادئ الأخلاقية السامية للإسلام الحنيف دون غلو قاس ولا تزمت قارص ولا إغراق في وحل الترف لإجبار الناس على اتباع عقيدة الإسلام، وإنْ كانت من خير سبل البقاء والامتداد أمام تحديات أفكار المحدثين سواء من الغربيين أو أهل الإسلام المعاصرين المقبلين على كل جديد دون تمحيص وتدقيق أو أي مراعاة لقاعدة شرعية واضحة ولا حكمة ربانية منجية. فكتاب «السراب» الذي سيرى النور قريباً ويقف بين أيدينا أشوق من الشوق ذاته لأنه فيه منجيات من حبائل الفكر الذي جعل من «السراب» إسلاماً لإغراق المغلوب على أمرهم في قاعٍ صفصفٍ، الذي لا ينبت فيه غرساً لبناء، بل فسيلة تتحول إذا نمت مع الأيام إلى «قنبلة» تنفجر في وجه من يسعى إلى خلعها للحفاظ على الكون من آثارها فما ذكرناه عن هذا الكتاب الذي هدفه الأساسي هو انقاذ المجتمعات وأفرادها من شرب هذا «السراب».