في شهر فبراير من عام 1946، أرسل دبلوماسي أميركي مغمور برقية سرية من السفارة الأميركية في موسكو الى وزارة الخارجية في واشنطن. رسمت البرقية صورة للوضع في موسكو خلال فترة حكم ستالين في الكرملين وروزفلت في البيت الأبيض. قالت البرقية إن العوامل الفاعلة في صياغة سياسة ستالين لا تنطلق من المبادئ الشيوعية، ولا من خلفية حزبية. ولكنها تنطلق من مزيج من الوطنية العنيفة والسلطة البوليسية. وتوقعت البرقية أن يضعف حكم ستالين مع الوقت أو أن ينهار كلياً. وأكدت البرقية بعد ذلك على المبادئ التالية: أولاً: أن التعاون مع النظام الستاليني لن يوصل إلى أي مكان. ثانياً: أن حليف الولايات المتحدة في الحرب يشعر الآن بعدائية نحوها أو على الأقل بلا ثقة. ثالثاً: أن تقسيم أوروبا يبدو أمراً لا مفر منه. رابعاً: أن مصلحة الغرب والولايات المتحدة على رأسه تتطلب العمل على احتواء جبار قوي.. ولكنه يتداعى. أحدثت هذه البرقية هزة عنيفة في السياسة الأميركية، وسرعان ما أصبح مرسلها واحداً من كبار المفكرين السياسيين وهو جورج كنان (توفي عام 2005). أخذت إدارة الرئيس روزفلت بنظريته، حتى أنها اعتمدته ركناً أساسياً في مشروع مارشال لمساعدة أوروبا الغربية على إعادة بناء ذاتها بعد الحرب، حتى تكون قادرة على أداء دورها في دبلوماسية احتواء الاتحاد السوفييتي. غير أن الرئيس هاري ترومان عاد وقرر المواجهة على الاحتواء. وشكل هذا القرار لترومان البوابة العريضة لدخول «المحافظين الجدد» إلى البيت الأبيض، وكان كبيرهم بول نيتشه (توفي عام 2004) هو الذي تولى إعادة صياغة سياسة الرئيس ترومان التي اعتمدها فيما بعد الحزب «الجمهوري»، من وزير الخارجية هنري كيسنجر إلى بول ولفويتز وريتشارد بيرل، اللذين كانا العقل المفكر للرئيس جورج بوش الابن في حربه على العراق (عام 2003). حاول الرئيس الأسبق جيمي كارتر العودة إلى سياسة الاحتواء، ولكن الصقور «الجمهوريين» أقاموا الدنيا ضده واتهموه بالتخاذل وبالإساءة إلى هيبة الولايات المتحدة وسمعتها إلى أن تبنى ريجان (من الحزب الجمهوري) سياسة المواجهة من جديد وإلى أبعد الحدود. وقد نجحت هذه السياسة في حمل آخر رئيس سوفييتي –ميخائيل جورباتشوف- (بعد فشل قمة ريكيافيك في عام 1986) على الرضوخ للشروط الأميركية، فكان سقوط جدار برلين في عام 1989 وإعادة توحيد المانيا، ثم كان سقوط الاتحاد السوفييتي نفسه كما توقع الدبلوماسي المغمور جورج كنان في عام 1946. ففي منتصف القرن العشرين المنصرم قتل على يد نظامي ستالين في الاتحاد السوفييتي وهتلر في ألمانيا 14 مليونا من غير العسكريين خلال الحرب وبعدها. والمنطقة الممتدة من بحر البلطيق في الشمال حتى البحر الأسود في الجنوب عرفت بأرض الدماء نظراً لما سال فيها من دم. فقد كان قدر هذه المنطقة أن تقع بين مطرقة النازية بفلسفتها العنصرية الألمانية، وفلسفة الشيوعية السوفيتية التي كانت تحاول تغيير نمط حياة الشعوب والأنظمة السياسية معاً. وقد مارست القوتان سياسة التصفية لشعوب تمردت أو قاومت. لم تبدأ عمليات القتل الجماعي في عام 1939 (المثل البولندي) ولم تتوقف في عام 1945 (المثل الأوكراني). ففي عام 1933 مثلاً، قتل في أوكرانيا وحدها 3.3 مليون أوكراني من جراء المجاعة. وبين عامي 1937 و1938 قتل في بولندا وحدها 250 ألفاً خلال حركة بولندية استقلالية، ولذلك كان الانتقام السوفييتي شديداً ومدمراً في الدولتين. ولا تزال مشاعر العداوة والبغضاء مستمرة حتى اليوم. لقد قام تعاون سوفييتي – ألماني في عام 1939 وهو التحالف الذي وصفه ستالين نفسه بأنه «موقّع بالدم». ولكن بعد عامين فقط على هذا التحالف الدموي، قامت ألمانيا النازية بعملية برباروسا بغزو الاتحاد السوفييتي. دفعت الدول الواقعة بين القوتين– ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي، الثمن الأغلى. فقد اجتاح الألمان بولندا عام 1936، وفتكوا بالجيش البولندي وأبادوه، ثم تحولوا إلى اليهود الذين قاموا بحركة عصيان ضدهم وانتقموا منهم في معسكرات الاعتقال. كان طبيعياً أن يدافع البولنديون عن مواطنيهم من اليهود، إلا أنه عندما انكفأت ألمانيا ودخلت القوات السوفييتية بولندا من جديد، كان الانتقام شديداً من البولنديين لمساعدتهم اليهود ضد الألمان! في عام 1952 كان ستالين يقول إن كل يهودي هو عميل للمخابرات الأميركية، وبالتالي، فإن كل بولندي يساعد العميل هو عميل مثله يستحق العقاب ذاته وهو القتل فوراً. لم يكن ستالين يؤمن بشيء اسمه «أسرى الحرب». ولم يكن يريد تحمل عبء إيوائهم وإطعامهم، فكان القرار بتصفيتهم الفورية. لقد ترك ستالين الملايين من الجنود الألمان محاصرين بالثلج حتى ماتوا جوعاً وبرداً. لقد تعلم ستالين الكثير من هتلر، وتعلم هتلر الكثير من ستالين. فكانت سلسلة المذابح التي جعلت من أوروبا لسنوات طويلة مسلخاً للبشر.