تتغير موازين القوى الدولية بأسرع مما كان متوقعاً وبصورة لا تتيح التقاط الأنفاس، فالدول والقوى المؤثرة تلهث لمجاراة هذه التغيرات وترتيب مصالحها وفقاً لها، من هنا نرى التغيرات المفاجئة والدراماتيكية بين عشية وضحاها وانتقالات سريعة بين مكونات وأطراف العلاقات الدولية. ليس النفط وأسعاره وحدها المتذبذبة والمؤثرة على سير هذه العلاقات، ولكنها مكون أساسي من جملة من تغيرات موازين القوى، التي ستشمل سياسات الطاقة، ومن ضمنها النفط، باعتباره لا يزال وسيظل حتى إشعار آخر اللاعب الأساسي في سوق الطاقة العالمي. لذلك، فإن الصراع حول النفط سيغير الكثير من موازين القوى والتحالفات السابقة، فالغرب والولايات المتحدة المرتبطون استراتيجياً بنفط الشرق الأوسط، يبتعدون شيئاً فشيئاً عن هذه المنطقة المضطربة والملتهبة باستمرار، خصوصاً أنهم نجحوا نسبياً في إيجاد البدائل، كالنفط الصخري في الولايات المتحدة والطاقة المتجددة والغاز الروسي والأذري في أوروبا. من هنا، تسعى بلدان الشرق الأوسط المنتجة للنفط والغاز إلى تغيير قواعد اللعبة في المنطقة لتستجيب ومصالحها، في ظل هذه المتغيرات السريعة لتنتقل من الغرب إلى الشرق المزدهر وسريع النمو، حيث تشير البيانات إلى تغير جذري في العلاقات التجارية والاقتصادية، فوكالة الطاقة الأميركية تشير إلى أن 68% من صادرات النفط السعودية تتجه إلى آسيا. أما شركة «أرامكو» السعودية، وهي أكبر شركة نفط في العالم، فقد استحوذت الأسواق الآسيوية على 54% من مبيعاتها، مقابل 17% فقط للسوق الأميركية، إذ لا تختلف هذه النسبة عن مبيعات بقية شركات النفط في المنطقة، التي أصبحت أكثر اعتماداً على الأسواق الآسيوية. هذا التغير يتطلب إيجاد بنية أساسية تتناسب والعلاقات المستجدة في سوق الطاقة العالمي بشكل خاص، وفي العلاقات الدولية بشكل عام، مما حدا بـ«أرامكو» إلى تأسيس شركة فرعية سميت «أرامكو آسيا»، مقرها العاصمة الصينية بكين، وتشرف على مبيعات ونشاطات الشركة في كامل القارة، بما فيها الاقتصادات الكبيرة، كاليابان والهند وكوريا الجنوبية. هذا التوجه الجديد والصحيح، يعكس طبيعة تبادل المصالح في ظل متغيرات سريعة سيترتب عليها نسج علاقات سياسية واستراتيجية لا تعكس المصالح الاقتصادية لمختلف الأطراف فحسب، وإنما تعطي صورة لما ستكون عليه هذه العلاقات في السنوات القادمة، وهي علاقات معقدة وخطيرة. فمن جهة، هناك الولايات المتحدة والغرب عموماً، الذي أضحى أقل اهتماماً باستقرار منطقة الشرق الأوسط، التي يرى فيها ليس مصدراً أساسياً لاحتياجاته من الطاقة، وإنما مركزاً لمصادر هذه الطاقة، التي يمكن من خلالها التحكم في الإمدادات المتوجهة للاقتصادات الآسيوية المنافسة له بقوة. من جهتها، تبدي الدول الآسيوية اهتماماً متزايداً بأمن المنطقة واستقرارها، الذي يشكل ضمانة لإمداداتها من النفط والغاز، حيث يشبه وضعها الحالي وضع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، التي لم يكن بإمكانها إعادة بناء اقتصاداتها دون نفط المنطقة الرخيص، والمتوافر بكثرة في ذلك الوقت. في ظل هذه التجاذبات بين البلدان والاقتصادات الكبيرة في الغرب والشرق، التي أضحت فيه بلدان المنطقة محورها الأساسي، بفضل ما تتمتع به من مصادر غنية للطاقة، فإنه يمكن لدول المنطقة أن تكون لها استراتيجيتها الخاصة المعبرة عن مصالحها، فأوضاع العالم اليوم وموازين القوى ليست كما كانت في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، فالصين والهند على سبيل المثال، اللتان كانتا مستعمرتان بريطانيتان، أضحتا دولتين لهما ثقلهما تتمتعان باقتصاد قوي وقدرات عسكرية كبيرة، وبالتالي لن تتخليا عن تحالفاتهما، بل ستعمدان إلى تعزيز علاقاتهما مع بلدان الشرق الأوسط التي ترتبط معهما بمصالح استراتيجية مهمة للطرفين، مما يتطلب إعداد البنية الأساسية القوية لهذه العلاقات المستجدة والمصالح المتبادلة.