سؤال لابد من إثارته في ضوء الموجة الإرهابية الشديدة التي اجتاحت العالم العربي مؤخراً. ما هي طبيعة المشكلة التي أدت إلى ظهور الإرهاب من جديد واتخاذه صوراً بالغة الخطورة كما في حالة «داعش»؟ هل المشكلة سياسية تتعلق بفشل الممارسة الديمقراطية أو تتعلق بسوء أداء بعض الدول العربية من حيث إخفاقها في إشباع الحاجات الأساسية لجماهير المواطنين وتحولت بالتالي إلى دول فاشلة؟ أم هي مشكلة اجتماعية تتعلق بارتفاع معدلات الأمية وتدني مستوى الأداء الاجتماعي مما أدى إلى جعل عقول الملايين من المواطنين البسطاء ملاذاً للفكر التكفيري؟ أم هي في الحقيقة مشكلة ثقافية في المقام الأول؟ وقد سبق لنا في دراسات سابقة أن قررنا أن الدولة العربية المعاصرة أخفقت في تأسيس دول حديثة، بناء على مسلمات ومبادئ ونظريات المشروع الحضاري للحداثة الغربية. هذا المشروع الذي استطاعت أوروبا بالاستناد إليه، صياغة المجتمع الصناعي على أنقاض المجتمع الزراعي الإقطاعي، والذي تحول من بعد إلى مجتمع المعلومات العالمي، والذى يتحول ببطء إلى مجتمع المعرفة.. وكان رأينا أن أهم مبادئ الحداثة هي تجديد النظام السياسي، بحيث يقوم أساساً على تداول السلطة في ظل مجتمع سياسي ديناميكي، يزخر بالأحزاب السياسية المتعددة ذات التوجهات الأيديولوجية المتنوعة، والتي تنقسم تقليدياً إلى اليمين والوسط واليسار مع تنويعات شتى. فيمكن الحديث مثلاً عن يمين الوسط أو يسار الوسط، حسب النزعة الفكرية الغالبة. ودولة الحداثة أيضاً تقوم على أساس سيادة القانون، والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، بالإضافة إلى حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم. ومن الواضح – إذا استعرضنا هذه المقومات لدولة الحداثة – أن الدولة العربية المعاصرة سقطت في الاختبار، لأنها لم تستطع أن تطبق هذه المبادئ والمعايير. ومن هنا خلصنا إلى نتيجة مهمة، مفادها أن الدولة العربية المعاصرة بأنظمتها السياسية المتعددة ملكية كانت أو جمهورية أو تقليدية، تركت «الحداثة» جانباً، وحاولت أن تستمد شرعيتها من عملية «التحديث» Modernization ، بمعنى إدخال إصلاحات اقتصادية متنوعة وسياسية فى الحد الأدنى، لنقل المجتمع التقليدى إلى مجتمع عصرى. غير أننا إذا أردنا أن نقيم حصاد عملية التحديث في العالم العربي طوال الخمسين عاماً الماضية، فيمكننا أن نخلص إلى أن المعدلات كانت منخفضة. ولعل هذا هو السبب الكامن وراء الأزمة الثقافية العربية الراهنة، التي تعاني منها جميع الدول العربية من دون استثناء. وهذا التفسير يقدمه باحث إيراني نشر من زمن على شبكة الإنترنت مقالة مهمة لافتة للنظر، لأنها تتضمن تحليلاً ثقافياً متعمقاً للظاهرة. والمقالة التي كتبها «محمد رضا فارسي» مترجمة للإنجليزية من اللغة الفارسية، وعنوانها «الأزمة الثقافية فى بلاد الإسلام: ضآلة معدلات التحديث». والفكرة المحورية للمقالة أن هذه الأزمة الثقافية لها جذور تاريخية عميقة. فهي ليست نتاج التطورات الاقتصادية في العقود القليلة الماضية، على الرغم من أن هذه التطورات لها دور في نشر هذه الأزمة وزيادة خطورتها. ومن المعروف أنه بالنسبة لأي تنمية اقتصادية لابد لها أن تمر من أبواب نظام سياسي وثقافي محدد. ومن ناحية أخرى فإن أي تغير بنيوي في المجتمع غالباً ما يثير مواجهات ثقافية وسياسية. وإذا نحن لم نختزل النظام الرأسمالي في المجال الاقتصادي، فإنه يمكن القول إن الأزمة الثقافية تعد تعبيراً عن التناقض بين المركز والمحيط Center – Periphery للنظام الرأسمالي العالمي. والأزمة الثقافية التي نشير إليها هي مجموعة من المواجهات التي تزايدت حدتها بحكم تزايد تأثير الثقافة الغربية في معظم البلاد الإسلامية، مما أدى إلى توتر ثقافي. وهذا التوتر الذي ساد بين التيارات التقليدية والتيارات العصرية في المجتمع جعل الحوار بين الجناحين يكاد أن يكون مستحيلاً. فالعداء بينهما والكراهية المتبادلة جعلت المواجهات بينهما تتم بشكل دائم. ولعل المواجهات الثقافية بين العلمانيين العرب والإسلاميين المتشددين، تعد نموذجاً بارزاً لهذا الصراع الثقافي. ولا يمكن القول إن التحديث بذاته أو عملية التنمية الرأسمالية، هي بالضرورة التي أدت إلى هذا الانفصام بين التيارين التقليدي والعصري. وذلك لأن الأزمة الثقافية في العالم العربي والإسلامي ليست أزمة عادية تتمثل في مشكلات الانتقال من مرحلة ما قبل الرأسمالية وما قبل الحداثة إلى مجتمعات رأسمالية وحديثة، ولا هي نتاج التنمية الرأسمالية في دول الأطراف، أو محصلة تناقضات التنمية الرأسمالية التي حدثت في العقود القليلة الماضية، ولكنها ترد إلى أسباب متعددة أخرى تستحق أن نحلل أبعادها المختلفة.