دأبت كتابات عديدة في الصحف، وتحليلات عبر الفضائيات، على الإشارة إلى تناسل الدواعش مِن حركة «الخوارج» المعروفة في التاريخ، كذلك ما طُرح في النسخة التاسعة من المنتدى السنوي لصحيفة «الاتحاد» (21-22 أكتوبر 2014)، المعنون بـ«الإرهاب من جديد»، وجرى النقاش حوله داخل المؤتمر وعلى هامشه، وإذ وقفتُ ضد فكرة التناسل، وقف الدكتور عبد الحميد الأنصاري معها، والذي يشهد له بموقفه ضد التشدد والطائفية، وواجه من متبني تلك المفردات ما واجه، وكان صدر له كتيب «ضد الكراهية» عن «دار مدارك». فمن وجهة نظري أن حركة الخوارج، الممتدة من 37هـ، حيث موقعة «صفين» على الفرات بين العراق وسوريا، وحتى نهاية الدولة الأموية وما بعدها، وهي تظهر وتختفي، ما كان لها الظهور لولا حصر الإمامة بقريش، والحديث مروي مِن قِبل أكثر المحدثين، وبدا التشدد فيه إبان الدولة الأموية، بدلالة رواية البخاري (ت 256هـ): أن معاوية (ت 60هـ) قد غضب ممَن تحدث عن مَلك من قحطان، فقال: «فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» (صحيح البخاري)، ثم ذُكر في كتب الحديث الأُخر وبصيغ مختلفة، والمعنى واحد. وبغض النظر عن قوة رواية الحديث ودرجة صحته، مع أنه يتعارض مع أُممية الإسلام، إلا أن الأمر صار لقريش، وظل فيها حتى تسلمه العثمانيون، وهم ليسوا مِن قريش ولا العرب، إنما حصل أن استولى سليم الأول على مصر في 1517م، وأجبر آخر خلفاء العباسيين هناك على التنازل عن حقه (آداموف، ولاية البصرة). دليلنا على أن حركة الخوارج كانت قبلية، قبل أن تكون دينية وسياسية، ،أن الذين تكتلوا فيما اسماهم خصومهم بـ«الخوارج» هم ليسوا قرشيين، بالتحديد من الأحناف وتميم والأزد، وكأن الأمر عودة إلى ما حصل في اليمامة (11/12ه)، مع الاحتفاظ بالإسلام والانشقاق من داخله. ومَن يقرأ كتب الملل والنِّحل، وفي مقدمتها «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين» لأبي الحسن الأشعري (ت 310هـ) يجد للخوارج مقالات فكرية اعتمدها أهل الاعتزال فيما بعد. نعم كان الأزارقة أصحاب عنف وتكفير كجماعة ظهرت بين «الشُّراة» أو «الحروريين» حسب ما قدم الخوارج أنفسهم، نسبة إلى تمثلهم بالآية القرآنية، والمكان الذي أطلقوا به حركتهم ضد قُرشيَّين هما: الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 40هـ)، ومعاوية بن أبي سفيان. لكن سرعان ما ظهرت ضدهم الجماعات، وفي مقدمتهم النَّجدات، والأخنسية التي حرمت البيات (الاغتيال)، بينما ظلت «الإباضية» مذهب اعتدال ومسامحة وتعايش. إن منظمات اليوم الإرهابية لها مميزاتها الخاصة، ومقالاتها في العنف والتترس، وحتى الحاكمية التي قال بها الإسلام السياسي مختلفة عن المقولة التي رفعها «الخوارج» في التحكيم بين أهل العراق وأهل الشام. فهي عنت بدايةً التفاوض بين الجيشين، أن يتم على أساس ما جاء في الكتاب، فقالوا: «لا حكم إلا لله ولا نحكم الرجال» (الشهرستاني، الملل والنِّحل)، لا المقصود السلطة. ويُنسب للإمام علي لحظة اغتياله: «لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس مَنْ طلب الحقَّ فأخطأه، كمن طلب الباطل فأدركه» (نهج البلاغة). أما إذا كانوا قد كفروا الآخرين، فتمثل ذلك بالأزارقة الموصوفين بالتطرف، وقد خرجت عليهم بقية «الخوارج». كما يَذكر الطبري: أن عمر بن عبد العزيز قد فاوضهم وارتاحوا لعدله، إلا أنه اغتيل إثر ذلك (101هـ) من قِبل بني مروان (تاريخ الأمم والملوك). وتظهر حاكمية المودودي (ت 1979) وبأثره سيد قطب (أُعدم 1966)، ومَن نحل منهما مِن «القاعدة» و«النصرة» و«داعش»، أنها مستلة من حاكمية الخوارج، لكن اعتبار الحكم حكم الله كان مفهوماً دينياً عاماً، والخلفاء أعلنوا أنهم يحكمون بأمر الله، والذي يطلع على نقوش أختامهم، حتى آخر خليفة عباسي يجد هذا جلياً (ابن الكازروني، مختصر التاريخ). نعود ونقول إن العامل القبلي وما عكسه من حصر الولاية في قريش له أثره بوجود ما شغل التاريخ الإسلامي من جماعة باسم «الخوارج»، من دون إغفال ما سجله المؤرخون ضدهم. لم تكن حركة «الخوارج» دينية في تشكيلها، مثلما الإسلام السياسي اليوم، وإنما كانت نزاعاً مع قريش، وإذا لم تكن كذلك لدخلها ولو قرشي واحد! ويبقى الميل أن كلاً له زمن عاشه، فلا يصح الإسقاط. --------------- *كاتب عراقي