د.أكمل عبدالحكيم عندما قام الآباء المؤسسون للولايات المتحدة بالتصويت على الانفصال، في الرابع من يوليو عام 1776، في خضم صراعهم العسكري مع الإمبراطورية البريطانية، تضمنوا في إعلان استقلالهم ثلاثة حقوق أساسية، غير قابلة للتفاوض أو التجزئة، وهي الحق في الحياة، وفي الحرية، وفي السعي للسعادة. وقبل هؤلاء الثوار الأميركيون بأكثر من ألف ومئة عام، نسبت قصيدة إلى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، مطلعها "النَفْسُ تَبْكِىْ عَلَىْ الدُنْيَاْ وَقَدْ عَلِمَتْ.. أَنَ السَلَاْمَة فَيِهَاْ تَرْكُ مَاْ فِيْهَاْ"، وفي بداية القرن الماضي، نظم أبوالقاسم الشابي، والذي توفي عن 25 ربيعاً، قصيدة في السعادة، من أبياتها "تَرجُو السَّعادة يا قلبي.. ولو وُجِدَتْ في الكون لم يشتعلْ حُزنٌ ولا أَلَمُ، فما السَّعادة في الدُّنيا سوى حُلُمٍ.. ناءٍ تُضَحِّي له أيَّامَهَا الأُمَمُ". ولن يتسع المقام هنا لذكر الشعراء الذين نظموا القصائد في السعادة، ولا الفلسفة والمفكرين الذين كتبوا وحللوا هذه الحالة الإنسانية النفسية، بداية من مفكري الكونفوشيوسية الصينية، ومروراً بحكماء الهند، ومن بعدهم فلاسفة اليونان القديمة، وهلم جرا. والغريب أنه لا يوجد تعريف أو مفهوم موحد متفق عليه للسعادة، رغم هذه الرحلة الطويلة للسعادة في الوجدان البشري، وكونها جزءاً لا يتجزأ من التجربة الإنسانية خلال مراحل التاريخ المختلفة، لدرجة تخصيص الأمم المتحدة للعشرين من شهر مارس، كيوم دولي للسعادة (International Day of Happiness)، للتأكيد على أن تحقيق السعادة والغبطة هو هدف أممي. وربما يكون هذا الاختلاف والتباين في معنى ومفهوم السعادة، ناتجاً عن تباين واختلاف المقاربات أو المداخلات التي تحول تعريفها، وتحديد مكوناتها، ورسم أفضل الطرق وأسهل السبل لبلوغها، فأحياناً ما تكون تك المقاربات بيولوجية حيوية، أو نفسية اجتماعية، أو دينية عقائدية، أو فلسفية فكرية. ويتضح مدى تعقيد مفهوم السعادة من تواتر الدراسات والأبحاث، ضمن المجال الأكاديمي الحديث نسبياً، والمعروف باقتصادات السعادة (Happiness Economics)، والذي يمزج بين علم الاقتصاد في شكله التقليدي، مع علم النفس، وعلم الاجتماع، بغرض دراسة السعادة بشكل كمي، ونظري، خصوصاً العوامل والمؤثرات الإيجابية والسلبية، ونوعية الحياة، والرفاهية أو العافية، ومدى الشعور بالرضا والغبطة في الحياة. آخر الدراسات التي صدرت عن هذا المجال الأكاديمي، أجراها علماء "يونيفرستي كوليدج لندن"، ونشرت في العدد الأخير من إحدى الدوريات الطبية المرموقة (Lancet)، واعتمدت على نتائج دراسات بحثية ومسحية استمرت أربع سنوات، شملت 160 دولة (Gallup World Poll)، وغطت 98 بالمئة من العالم. وخلصت هذه الدراسة إلى أن تباين مستوى السعادة خلال مراحل العمر المختلفة، يقسم دول العالم إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول: يشمل الدول الأوروبية، والغربية، والصناعية، ويبدأ فيه مستوى السعادة مرتفعاً خلال مراحل العمر الأولى، لينخفض خلال متوسط العمر، ثم يعود ليرتفع في مرحلة ربيع العمر والشيخوخة. أما القسم الثاني فيشمل دول الاتحاد السوفييتي سابقاً، ودول شرق أوروبا، ودول أميركا اللاتينية والكاريبي، ويبدأ مستوى السعادة فيه مرتفعاً، لينخفض تدريجياً، وباضطراد مع التقدم في العمر. أما القسم الثالث فيشمل الدول الأفريقية جنوب الصحراء، فيبدأ فيها مستوى السعادة منخفضاً، ويظل منخفضاً حتى نهاية العمر. ويفسر العلماء هذه النتائج كالتالي: في القسم الأول، أو الدول الغنية، ينخفض مستوى السعادة في منتصف العمر، لأن تلك الفترة تمثل أفضل فترة للحصول على أكبر أجر، وأعلى راتب، مما يدفع الكثيرين للعمل ساعات طويلة، متجاهلين مسببات السعادة الأخرى، كالأسرة، والأهل، والأصدقاء، وإن كان ذلك يتيح لهم موارد مالية جيدة عند التقاعد، مما يعود ليرفع مستوى السعادة لديهم في ربيع العمر. أما في دول القسم الثاني، أو دول الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، فيرد الانخفاض التدريجي في مستوى السعادة إلى تراجع مستوى الدخل مع التقدم في العمر، دون أن يكون هناك نظام معاشات، أو تضامن اجتماعي، كفيل بتوفير حياة كريمة في السنوات الأخيرة من العمر. وفي القسم الثالث، أو دول جنوب الصحراء، فيبدأ هؤلاء حياتهم في فقر، وعوز، يجابهون أمراضاً وبائية، واقتصاداً مترداً، وهو ما يستمر طيلة حياتهم. وتضيف هذه الدراسة الأخيرة، مكوناً آخر في المركب البالغ التعقيد، والمعروف بالسعادة. ففي الوقت الذي تعني السعادة معاني مختلفة باختلاف الأشخاص، نجد أيضاً أن بلوغها وتحقيقها يتطلب عدة عوامل خارجية وداخلية، وظروف محيطة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر: مستوى الصحة العامة والخلو من الأمراض والإعاقات، وقوة الإيمان والعقيدة الدينية، وتوفير متطلبات الحياة الأساسية من مأكل وملبس ومسكن وتعليم ورعاية صحية، وربما أيضاً بعض الرفاهيات والكماليات، والحرية والاستقرار السياسي، والأمن، وتواصل التفاعل الاجتماعي اليومي، خصوصاً مع الأهل والأصدقاء، وغيرهم من الظروف والمتطلبات الضرورية لتحقيق هذه الحالة النفسية، التي تعتبر حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، وغاية مبتغاة من جميع البشر. د. أكمل عبد الحكيم