كانت ردة فعل السلطات السعودية على جريمة الأحساء في عاشوراء أكثر من ممتازة. فبينما لاحقت القوى الأمنيةُ المجرمين الهاربين، أصدرت هيئة كبار العلماء بياناً واضحاً في استنكار الجريمة، واعتبرت الفاعلين خارجين عن الدين والدولة. أما وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية؛ فاعتبرت العمل إجرامياً وجباناً واعتداءً على أديان المواطنين وأرواحهم وحرياتهم واستقرارهم. وما اعتدى الشيعة السعوديون بالفعل على مشاعر المواطنين الآخرين الدينية، ولا احتلوا الشوارع وسدُّوا الطرقات. بل كانوا عندما هوجموا خارجين من إحدى الحسينيات بعد أن أدّوا شعائر «التعزية» الحسينية المعروفة في مذهبهم، والتي ازدهرت ازدهاراً عظيماً بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، ثم بعد غزو العراق عام 2003. إن ما أعنيه بالازدهار بل وتغير الدلالات، ظهر في العراق وسوريا ولبنان والكويت والبحرين واليمن. وكان الجديد هذا العام «شعائر» عاشوراء بأحياء دمشق الداخلية، وأحياء صنعاء الداخلية أيضاً. ففي دمشق تجمع عشرات الأُلوف بأحياء دمشق القديمة، وليس بين هؤلاء سوري واحد. لأن بدمشق حياً شيعياً فقط هو حي السيدة زينب. أما الذين تجمعوا واحتفلوا بجوار الجامع الأُموي والمواقع القديمة الأُخرى فمن العراق وإيران ولبنان، ومن الميليشيات الشيعية الأفغانية التي تقاتل مع الرئيس الأسد. وما جرى بصنعاء يحدث أيضاً لأول مرة بعد احتلال الحوثيين لها قبل شهرين. وهذا الاحتفال العاشورائي ليس غريباً على صنعاء فقط؛ بل وعلى الزيدية أيضاً. فقبل أقلّ من عشر سنوات بدأ «الشباب المؤمن» من أنصار الحوثي يحتفلون بعاشوراء في صعدة وضحيان. ووقتها أنكر عليهم كبار شيوخ الزيدية، لأنه ليس في تقاليدهم ذلك. أما اليوم فمن يجرؤ على الإنكار والاستنكار؟ فهؤلاء ما عادوا يجتمعون للنواح على الحسين، والتذكير بمظالمهم من خلال الظلم الذي نزل بالإمام الحسين، بل هم يتجمعون في أحياءٍ سنية ومُدُن سنية، ويرفعون شعارات مختلطة يسري فيها جميعاً الإحساس بالانتصار: من غدير خُمّ (استخلاف علي وإدانة أبي بكر وعمر وعائشة)، إلى وجوب الثأر للحسين (ممن؟)، وأخيراً رفع شعارات: الموت لأميركا، والموت لإسرائيل! وقد تلقيتُ على هاتفي دعوة من «مجمع آل البيت» للعمل على الثأر للإمام الحسين، وانتظار حفيده المهدي عليه السلام! أما خطاب حسن نصرالله في ختام شعائر ومشاعر عاشوراء فانقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول في تهديد إسرائيل، وأنها لا تجرؤ على شنّ الحرب، أما إنْ فعلت فلن تبقى منها باقية. والثاني في شرح المظالم التي نزلت بآل البيت؛ وأن الزمان يؤْذِنُ بانتصار الدم على السيف. أما القسم الثالث (وكأنما هو متابعةٌ للقسم الثاني) فعن الانتصار الذي تحقق الآن في سوريا على التكفيريين وقاطعي الرؤوس بالتكافل والتضامن بين ميليشيات إيران الأُخرى وكتائب الرئيس الأسد! ولنلتفت للجهة الأُخرى من المشهد. الدواعش والقاعديون متطرفون أيضاً وقتّالون. وقد احتلوا مناطق في سوريا والعراق، وما يزالون يمارسون المذابح ضد السكّان من أهل السنة. وإذا سألتهم: لماذا يفعلون ذلك؟ يقولون: لأنهم لم يبايعو التنظيم، ولأنهم يتحالفون سراً مع العدو الأميركي والرافضي والنُصيري! وهكذا فأنت أيها المواطن العادي في سوريا والعراق بين نارين: أن تبايع «داعش» إن وقعتَ تحت سيطرتها، أو تشتغل بالثأر من نفسك ودينك وتاريخك إن وقعتَ تحت سيطرة ميليشيات نصرالله! وإذا أبيتَ هذا وذاك، لأن المناطق يمكن أن تتبدل من فريقٍ لفريق، كما يحصل في العراق الآن، فما عليك إلا الهجرة: إن كنت في العراق للمنطقة الكردية، وإن كنت في سوريا فلتركيا ولبنان والأردن! إن التطرف بلاء هائل، وهو ينال من الأديان والإنسان والعمران والأَوطان. لكن التطرف ذو وجهين: إيراني ناشر للميليشيات القاتلة- أو من «داعش» و«النصرة» و«أنصار بيت المقدس».. و«أنصار الشريعة».. إلخ، وهؤلاء يستولون أيضاً على مناطق سنية يقتلون الناسَ فيها أو يتسببون في تهجيرهم، مثلما فعل بشار الأسد والمالكي والإيرانيون ويفعلون في الجهة الأُخرى! إنها المحنة القاسية في خمسة أو ستة بلدان عربية. فالمجتمعات تتشرذم بين سني وشيعي. والدول تتهدد أو تنهار. ويهرب الإنسان من الدواعش، فيقع في أيدي الصارخين: يا لثارات الحسين! ولا حول ولا قوة إلا بالله.