تتأثر العمليات الحيوية أو البيولوجية، داخل خلايا، وأعضاء، وأجهزة الجسم، بعدد من العوامل، مثل الظروف البيئية المحيطة، والتركيبة الوراثية، وتوافر الغذاء، وبقية الفيتامينات والمغذيات، وحتى بالحالة النفسية، وغيرها من المتغيرات والمؤثرات. أحد تلك العوامل أو المتغيرات، التي تؤثر بشكل واضح في تزامن العمليات الحيوية، وفي نتائجها، هو ما يعرف بالساعة البيولوجية (Biological Clock). هذه الساعة، ليست كالساعات المعتادة، وغيرها من أجهزة قياس الوقت، بل هي في الحقيقة جدول أو نسق زمني بيولوجي، متكرر في دورات متطابقة، يتيح للإنسان –وبقية الكائنات الحية- تنسيق العمليات البيولوجية، والسلوك العام، بشكل متوافق ومتزامن مع التغيرات اليومية، مثل مستوى الإضاءة، ودرجة الحرارة، وأوقات النوم والراحة، خلال فترة الأربعة وعشرين ساعة، وعبر فصول السنة المختلفة. بمعنى، أن العمليات الكيميائية الحيوية داخل أجسامنا، لا تسير في نمط ووتيرة واحدة خلال اليوم، بل تختلف طبيعتها، وقوتها، ومساراتها، ونتائجها الفسيولوجية، باختلاف الليل والنهار، وبتتابع ساعات اليوم الواحد، وتغير الفصول. ومؤخراً تزايد الإدراك بأهمية هذه الوتيرة الزمنية، أو الساعة البيولوجية، في العديد من الأمراض والعلل التي تصيب الجسم البشري، كما تزايد اهتمام العلماء والباحثين في استغلالها لأغراض علاجية، وفي رفع كفاءة وفعالية الأدوية والعقاقير الطبية، ضمن المجال الحديث نسبياً المعروف بالعلاج الزمني (Chronotherapy) ، أو جدولة وتنظيم العلاج حسب الوقت والساعة. وتعتبر السمنة، وداء السكري من النوع الثاني، من الأمراض التي أصبحت ترتبط احتمالات الإصابة بها، باختلال الساعة البيولوجية. فرغم أن هذين المرضين يتأثران بشكل كبير بالتركيبة الجينية، أو الاستعداد الوراثي، وبنمط وأسلوب الحياة، مثل قلة النشاط البدني، وعدم ممارسة الرياضة، وتناول أغذية مرتفعة المحتوى من السعرات الحرارية، إلا أن اختلال واضطراب الساعة البيولوجية، أصبح يدرج أيضاً تحت نمط وأسلوب الحياة اللذان يلعبان دوراً في زيادة احتمالات الإصابة بتلك الاختلالات الأيضية، المتمثلة في السمنة المفرطة وفي السكري. حيث أظهرت الدراسات أن الحيوانات التي تجبر على الأكل خارج الأوقات الطبيعية، تعاني زيادة في كتلة الجسد، ومن تغير كيفية عمل الجينات، وإيقاع الساعة البيولوجية بداخلها. وكثيراً ما ينتج اضطراب الساعة البيولوجية، من العمل في نوبات مسائية حتى الصباح، أو العمل في نوبات متغيرة الساعات، بمرور الأسابيع والشهور، كالعمل مثلاً من الصباح الباكر إلى عصر اليوم خلال أسبوع ما، ثم العمل من عصر اليوم إلى المساء في الأسبوع الذي يليه، ثم العمل من المساء إلى الصباح الباكر في الأسبوع التالي، وهكذا. وتتعرض الساعة البيولوجية للاختلال والاضطراب أيضاً في الأشخاص الذين يسافرون عبر مناطق زمنية مختلفة (Jet-lag) خلال وقت قصير، من الشرق إلى الغرب أو العكس، كما هي الحال مع الطيارين وأطقم الضيافة على متن الطائرات التي تسافر عبر المحيطات والقارات. وترتبط نوبات العمل المتغيرة الأوقات، خصوصاً تلك التي تدفع بالأشخاص لتناول الطعام في أوقات غير منتظمة، بتغير في مدى حساسية واستجابة الجسم لهرمون الإنسولين -إحدى العلامات المميزة لمرض السكري- كما تزيد نوبات العمل المتغيرة الأوقات من احتمالات الإصابة بأمراض القلب والشرايين، وبارتفاع ضغط الدم، وبالمتلازمة الأيضية (Metabolic Syndrome). وعلى الجانب الآخر، يأمل العلماء والأطباء من أن زيادة فهمنا لطبيعة عمل الساعة البيولوجية، وميكانيزماتها، والتغيرات الأيضية المصاحبة لها، ستفتح أبواباً جديدة، وآفاق واسعة، في طرق وأساليب العلاج الدوائي بالعقاقير الطبية. فعلى سبيل المثال، أدى اكتشاف حقيقة أن الغالبية العظمى من الكوليستيرول - والمسؤول عن تصلب وانسداد الشرايين ومن ثم الإصابة بالذبحة الصدرية والسكتة الدماغية - ينتج في الكبد خلال فترة المساء، إلى توجيه المرضى بتناول العقاقير المخفضة للكوليستيرول في هذه الفترة، لتحقيق أكبر قدر من الفعالية، ولتقليل الجرعة إلى أقل حد ممكن، لتجنب الضرر الجانبي الذي قد يحدث من هذه العقاقير على الكبد. وفي ظل اعتقاد الباحثين بأن 56 عقار على قائمة المئة عقار الأكثر مبيعاً واستهلاكاً حول العالم، أو ما يعادل نصف قائمة الأدوية الأساسية الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، تتأثر كفائتها وفعاليتها بالتغيرات الزمنية البيولوجية، وبالاختلافات الحاصلة في أسلوب عمل الجينات خلال ساعات اليوم المختلفة، يمكن لنا أن نتخيل وقع وتأثير الفهم الأشمل للساعة البيولوجية على مستقبل الطب، وعلى أساليب العلاج المختلفة. فبناء على حقيقة أن أية عقار أو دواء مهما بلغت درجة أمنه وسلامته، لا يخلو من الأعراض الجانبية، ربما يصبح من الممكن في المستقبل القريب، ضبط وقت تناول تلك العقاقير، بشكل يتيح لها فرصة أعظم في الفعالية والتأثير، وبأقل جرعة ممكنة، لتجنب أضرارها وتأثيراتها السلبية على المريض إلى أقل درجة ممكنة.