في السياسة الثقة الكبيرة والطمأنينة للوعود التي تبدو واقعية وصادقة أو حتى الاتفاقيات والمعاهدات السرية والرسمية والاعتماد على نظام دوائر النُصح الخاصة دون اللجوء للاستماع لدوائر النُصح والمُناصحة العامة.. هي وصفة كارثية للفشل على المدى الطويل. ولا يفوتُني هنا أن أُركِز على مفهوم الأمن البشري كجزء من استراتيجية أوسَع لتأمين دول مجلس التعاون الخليجي خلف نُقطة لا عودةَ فيها للوراء مجدداً في أي مجال، خاصة في بناء استراتيجيات الأمن المشتركة وتحقيق أمن الخليج كجزء لا ينفصل عن الأمن القومي العربي والانتقال من مصفوفة الأمن الداخلي وربطها مباشرةً بمصفوفة الأمن الخارجي وخاصة بعد التحول الدراماتيكي في زيادة الإنتاج والاكتشافات المحلية وحجم الثروة والاحتياطات من النفط والغاز في الدول الكبرى، بجانب حقيقة ما تملكُه بعض الدول الناشئة من مخزونات الطاقة والتنامي السريع في احتياجات الصين والهند وتركيا وأوروبا والقوى الاقتصادية في آسيا والنهم الكبير لاستهلاك النفط والغاز للحفاظ على مُعدل التنمية الشاملة خلال العقدين القادمين، وهو ما يؤثر في مصالح تلك الدول، في الشرق الأوسط بصورة عامة وفي الخليج العربي وإيران ومصر ودول الهلال الخصيب بصورة خاصة.. لاسيما فيما يتصل بالوجود الأمني والسياسي والاقتصادي والثقافي في المنطقة، والحفاظ على تدفق النفط والغاز وتأمين المعابر البحرية والممرات المائية شديدة الحيوية للاقتصاد العالمي. وفي إطار الصراع المفتوح بين الدول الكبرى، يتم منح بعض القوى الإقليمية الضوء الأخضر للسيطرة بالوكالة على بنك الطاقة العالمي الأكثر أهمية والظفر في معركة الممرات الاستراتيجية مثل مضيق هرمز وقناة السويس وباب المندب. وما يجري في دول الممرات ودول المنطقة المحيطة بها هو ضغط مباشر للخضوع لقوى العولمة الطاغية وفرض قراءة مختلفة لمُعادلة الطاقة وطبيعة التغيرات في الجغرافيا السياسية ونمو القوى الجديدة. ومن يتحدث عن حاجة أميركا وأوربا للنفط والغاز الخليجي، لا يدرك أن الدول الآسيوية هي حقاً المُستهلك الرئيسي للنفط في الشرق الأوسط. وبحلول عام 2035 فإن ما يقارب 90 في المئة من صادرات النفط الخليجي ستذهب إلى آسيا، لكن ذلك لا يُغير حقيقة كون الولايات المتحدة الضامن الرئيسي للمَمرات البحرية، وهو أمر يصُب مباشرةً في مصالح أمن الطاقة الأميركي. فأميركا تحتاج لأسواق تستهلك مُنتجاتِها لتبقى قوة عُظمى، وحماية مصالحها الاقتصادية ونفوذها السياسي وتواجدها التجاري والصناعي والتكنولوجي في المنطقة ناهيك أن تأمين تجارة النفط الخليجية، كل ذلك يؤثر في أسعار النفط والغاز عالمياً، والتي يتسبب ارتفاعها في وقف جهود التعافي المستدامة من الأزمة الاقتصادية العالمية. دع عنك جانباً اندلاع نيران أزمة أخرى وعجز تجاري أكبر في قطاع الطاقة، فأين يقع الخلل في الحِسبة الأميركية في ما يخص الأمن الخليجي؟ في اعتقادي الشخصي يقع الخلل في تصورِها أن إيران يمكن أن تحِل محلها كقوة عسكرية قوية في المنطقة، وهو سيناريو يراه بعض الساسة الإميركيين حلا لمُشكلة التهديدات الإيرانية لمضيق هرمز، وذلك باعتبار أن إيران قوة إقليمية لها شبكة سرية تنتشر في جميع أنحاء المنطقة ولها تغلغل عميق في الحكومة العراقية وبعض القوى التي تضع أجندتها المذهبية قبل الأجندة الوطنية. كما أنها في وضع مناسب للتأثير على صُنع القرار العراقي، بجانب السيطرة غير المباشرة على القضية النووية الإيرانية، في صفقة تبادلية تَكفل للطرفين بصورة أو بأُخرى تحقيق مصالحهما الجوهرية. فهل إيران هي بالفعل في طريقها لتحقيق أهدافها بمباركة أميركية غربيَة روسية صينية مقابل ضمان تدفق النفط عبر مضيق هُرمز والتعهد الإيراني بالابتعاد عن حقول النفط والغاز الخليجية؟ تفترض الاستراتيجية الأميركية أنه بالإمكان حمل القوى السُنية الكبرى تدريجياً على الاعتراف بنفوذ طهران والدخول في صفقة مع الجانبين الإيراني والتركي وتقبل الأمر الواقع وحصر مصر في قِمقم الإرهاب والتخريب والعثرات الاقتصادية للإذعان لخريطة القوى الجديدة في الشرق الأوسط. وبالطبع هناك دائماً فجوة بين النية والقدرة، خاصة في الحالة الإيرانية حيث تغيب الثقة. وأرى أن الكيان الخليجي يجب أن يتوحد بصورة كلية في إطار صفقة توافقية مع الجميع للقبول بأقل الخسائر المُمكنة لتحقيق كسب ملموس في المستقبل. فكل الأحداث والتطورات في المنطقة والانتقادات والتلميحات الأميركية، هي رسائل ضمنية لقلب الطاولة. فمتى ستبادر الدول العربية مجتمعة بالهجوم الاستباقي من خلال أجندة مصالح مشتركة واقعية للتعافي من مخرجات التحركات الدبلوماسية المنفردة للعرب والنجاحات المؤقتة في المجمل ذات التأثير المغالط فيه إعلامياً؟ إن التحدي الأكبر يتمحور حول إهمال منطلق الاستدامة السياسية للمنطقة ككل، وإن كانت إيران في الوقت الراهن تعاني من جميع النواحي وليس لديها نفوذ عسكري يمكن أن يشكل تهديداً لدول مجلس التعاون الخليجي، إلى حد إجبارهم على التفاوض بعيداً عن الضمانات الأمنية الأميركية. لكن مَن يضمن تلك الضمانات؟ وأين الأمان والمنطق في ظل الغلو والتطرف ومنطق التوسع الأيديولوجي المنغلق؟