إن بناء الدول والأمصار من العلوم الدقيقة التي تتداولها الأمم والأجيال، وتُشد إليه الركائب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتطرف بها الكتب والأندية إذا غصها الاحتفال. وبناء الدول والأمصار مما تحفل به كتب التاريخ لأن حقيقته كما يكتب ابن خلدون أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.. ومما يشهده هذا النوع من التاريخ مما كتب ومازال يكتب، أن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان هو زعيم أسس دعائم الدولة الحديثة بكل ما تحمله كلمتا الدولة والحديثة من معنى من تثبيت للأمن والأمان وتحقيق الرقي والازدهار والنظرة إلى المستقبل التي تحمي البلاد والعباد من كل تقلبات الدهر والزمان. وكان قيام دولة الإمارات العربية عام 1971 الإنجاز السياسي التاريخي، وفي ظرف قياسي حدثت تطورات وتغيرات اجتماعية تمت في إطار من الوئام والاستقرار، ونعمة الاستقرار منذ الأزل خاصة في زماننا هذا من أكبر النعم التي يحسد عليها. وفي تناغم تام تم التوفيق بين ثنائيات قد تبدو متناقضة كالتوفيق بين المتطلبات المتعارضة للقبيلة والدولة والإمارة والاتحاد والتراث والمعاصرة. وهذا التوفيق بقي مستمراً في عهد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، وخير خلف لخير سلف، الذي نجح في تطويرها والحفاظ على القيم الأصيلة في الحكم والمجتمع والتزامه العميق والدائم بالارتقاء بالمستوى المعيشي لأبناء شعبه، وهو بذلك من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وتجني منها دولة الإمارات العربية المتحدة الخير الكثير. ومنذ سنوات وأنا أعاين في الإمارات عبقرية القائد والمحكوم المنصهرين في ما يمكن أن نسميه بالإنسان الإماراتي الواحد، وما كان لهذا الجسم الواحد أن يولد لولا مفهوم الثقة المتجذرة عند الشعب الإماراتي في قائدهم ومؤسساتهم وفي الاتفاق على الحق، والحق هي القشرة واللحمة الحاميتين للوطن. وجمع القلوب وتأليفها، إنما يكون بمعونة من الله عز وجل في إقامة دينه وربط الأسباب بمسبباتها (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم)، والقلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل حصل التنافس الباطل وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق بكل ما تحمله كلمة الحق من معنى ذهب التنافس وقل الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك وهو ما نجح في تأصيله صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد، وتجذر عند الإنسان الإماراتي، فحصل لهم جميعا الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء، لأن الولاء للوطن والوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه.