منذ كنا صغاراً، ونحن نعرف بأن هناك يوماً يُسمى عاشوراء يغلق فيه «باقر» صاحب البقالة في الحي أبواب بقالته التي تظل مفتوحة طوال العام، ومع كل ما يُحكى عن ممارسات وطقوس دموية للآخر في هذا اليوم، نتطلع بشوق لفتح أبواب البقالة وبمخيلة طفولية جامحة لرؤية آثار اللطم والتطبير بالسيوف على جسد باقر وأبنائه. يوم حفر في الذاكرة بالصيام والبقالة المغلقة والفضول الطفولي لمراقبة خيم الحسينيات التي تنصب مع دخول شهر محرم. لم يكن الانتماء الطائفي إشكالية بين الجيران في الحي ولم يكن كذلك بين ضفتي الخليج حتى سقط شاه إيران بثورة شعبية شاركت فيها كافة فئات المعارضة السياسية، إلا أن الخميني سرعان ما استفرد بالسلطة، وأقصى المعارضة العلمانية و«اليسارية» وتبنى مبدأ ولاية الفقية، وأسس أول دولة في التاريخ تتبنى المذهب الشيعي الاثنى عشري ومبدأ ولاية الفقيه المطلقة بنص صريح في المادة (12) من الدستور «الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنى عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير». دولة نصبت نفسها قبلة للمذهب الشيعي ولتصدير المذهب، ولتبني أتباع المذهب حتى من مواطني دول الجوار الجغرافي ممن استوطنوا وعاشوا فيها كمواطنين دون أن يخلق إشكالية مواطنة، فيؤكد الدستور الإيراني أهداف إيران التوسعية لحماية المستضعفين «الشيعة»، فالمادة (154) تنص على أن «جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم». ومنذ أن قال الخميني مقولته الشهيرة «إن كل ما لدينا هو من عاشوراء»، تحولت مواكب عاشوراء من مواكب دينية إلى مناسبات سياسية، ففي مملكة البحرين أصبحت طقوس عاشوراء مناسبة للتأجيج الطائفي، فالمواكب ترفع الشعارات السياسية بدعوى الطقوس الدينية، لقد نجحت إيران في تعظيم الاختلافات الطائفية، التي يغذيها كره الآخر المختلف. وتشكل واقعة مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما - في يوم عاشوراء وأنصاره وسبي أهله نقطة محورية في رسم ملامح الطائفة الشيعية، وفي تشكيل هويتها، فتحولت الواقعة إلى بكائية تاريخية مستمرة، وأخذت القصص والرؤى والأساطير تغذي العقل الشيعي عبر أجيال وأجيال بكراهية قاتل الإمام الحسين وظل الضمير الجمعي الشيعي يتغذى بالانتقام والكراهية كلما تتم «مسرحة الحدث»، حيث تقدم واقعة كربلاء وتجسد شخوصها الرئيسية في مسيرات عاشوراء فتنضح المشاعر بآلام عاشوراء المسرحية، وتلتهب المشاعر الجمعية حزناً على البطل الضحية، لقد تم تسييس العقل الجمعي الشيعي بابقاء جذوة واقعة مقتل الامام الحسين مشتعلة كمادة تحشيد اجتماعي في بكائية مستمرة لعقود تتوارثها الأجيال بذات الزخم وتؤججها العمائم السوداء والبيضاء والزعماء السياسيون فجوهر الشعائر السنوية ليس اللطم والبكاء على خذلان وخيانة الامام الحسين، ولكن صناعة الآخر العدو الخصم الظالم الناصبي فـ«کل يوم عاشوراء وکل أرض کربلاء». إنه التوظيف السياسي لملحمة عاشوراء الذي يمثل أسطورة سياسية تهدف إلى إعادة تشكيل أفعال الاتباع من العامة والتحكم بمشاعرهم وأفعالهم، إذ يرى علماء الشيعة بأن لمقتل الحسين دوراً في ترسيخ الدين وديمومة المعتقد، لما يملكه من شاهد على الثبات على المبدأ والمطالبة بالحق، فتحولت الخطب واللطميات إلى أناشيد تصدح ليلاً ونهاراً في الحسينيات، وأصبح سب العرب وتكفير الصحابة ولعنهم بدعوى تحريفهم للوصية بالخلافة. لقد عمل غلاة علماء الشيعة على التركيز على المسائل الخلافية، وتكفل النظام الإيراني في تعظيم شقة الخلاف مع الآخر لقد وظفت إيران طاقاتها لخدمة أهدافها العقائدية والسياسية، ووضعت آليات ورسمت سياسات لتصدير ثورتها والتغلغل السياسي، فأنشأت الخلايا النائمة، وسعت لتحقيق نجاحات سياسية في العراق وسوريا واليمن والبحرين لـ «بسط حاكمية القانون الإلهي». ففي يوم عاشوراء، نتساءل حول عبارة «يا لثارات الحسين»، ممن ستكون هذه الثارات وقد انقضى زمن الأمويين؟