في الوقت الذي يتعرض فيه الجنس البشري منذ عدة سنوات، لسلسلة متتابعة من الأمراض المعدية الجديدة، والفيروسية بالتحديد، بداية من «السارس»، ونهاية بإيبولا، لا يجب أن نفقد تركيزنا أو اهتمامنا، بما يمكن أن نطلق عليه الأمراض المعدية التقليدية، لما قد تشكله من خطر داهم إذا أصابها التجاهل، في خضم التركيز فقط على أوبئة الأمراض الحديثة. كما لا يجب أن يصيبنا اليأس والقنوط، من قدرة البشر على الابتكار والإبداع، وبالاعتماد على العلم الحديث، في مواجهة ودحر المخاطر البيولوجية، بما في ذلك الجراثيم بأنوعها المختلفة، من بكتيريا وفيروسات وطفيليات، والتي تحاول أن تقتات على خلايا وأنسجة وأعضاء جسد الإنسان، وأن ترتشف من دمه، وبقية سوائله الحيوية. أفضل مثال يجسد هذا الموقف الذهني بشقيه، هو فيروس شلل الأطفال، والذي كان قبل وقت ليس بالبعيد، يعصف بحياة الملايين من البشر، ويقتل أعداداً كبيرة منهم، قبل أن يتمكن العلماء من السيطرة عليه لحد كبير من خلال التطعيم، لدرجة أن الآمال أصبحت تراود الكثيرين في القضاء عليه، ليلحق مصيره بذلك مصير فيروس الجدري. حيث انخفضت عدد حالات الإصابة بفيروس شلل الأطفال بنسبة 99 بالمئة منذ عام 1988، من 350 ألف حالة سنويا موزعة على 125 دولة متوطن بها المرض، إلى مجرد 416 حالة بحلول عام 2013، وفي ثلاث دول فقط لا يزال المرض متوطناً بها، هي أفغانستان، وباكستان، ونيجيريا. ومن بين تلك الحالات، نجد أن 160 منهم موجودون في الدول المتوطن بها المرض، بينما تنتج بقية الحالات –حوالي 256- نتيجة انتقال الفيروس من الدول المتوطن بها المرض إلى الدول الخالية من الفيروس. بمعنى، أنه إذا تمكنا من القضاء على الفيروس في تلك الدول الثلاث فقط، فسننجح حينها من التخلص من فيروس شلل الأطفال، بشكل نهائي لا رجعة فيه. وحتى هذه الدول الثلاث، لا يتواجد الفيروس في جميع قراها ومدنها، بل في مناطق جغرافية محدودة، وهو ما يشكل أصغر رقعة لانتشار الفيروس في التاريخ من المنظور الجغرافي، بل إن من أنواع الفيروس الثلاثة، تمكن المجتمع الدولي بالفعل من القضاء على النوع الثاني منذ عام 1999، كما أن النوع الثالث سجل أقل معدل للحالات في التاريخ، حيث لم تسجل أية حالة إصابة في نيجيريا مثلا –إحدى الدول الثلاث المتوطن بها الفيروس- منذ عام 2012. ويظل النوع الأول فقط، هو المسؤول عن الغالبية العظمى من حالات شلل الأطفال التي تطل برأسها الخبيث بين الحين والآخر. ويُرد جزء كبير من هذا النجاح إلى تبني واعتماد الجمعية الصحية الدولية (World Health Assembly) لقرار عام 1988 بهدف القضاء على الفيروس من جميع دول العالم، بعد توثيق وتأكيد القضاء على فيروس الجدري بشكل رسمي من جميع دول العالم عام 1980، ومع تحقيق النجاح في تخليص جميع دول أميركا الشمالية، ودول أميركا الجنوبية، من فيروس شلل الأطفال خلال عقد الثمانينات. وهو ما شكل نقطة الإنطلاق للمبادرة الدولية للقضاء على شلل الأطفال، والتي تزعمها كل من منظمة الصحة العالمية، والحكومات الوطنية، ونوادي الروتاري الدولية، ومركز التحكم والوقاية من الأمراض الأميركي، ومنظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة، وبدعم من شركاء رئيسيين، مثل «مؤسسة بيل وميلندا جيتس» للأعمال الخيرية. ومرض شلل الأطفال هو مرض فيروسي شديد العدوى، يصيب في الغالب الأطفال تحت سن الخامسة، ومؤخراً أصبح حلم القضاء التام على فيروس شلل الأطفال مهدداً، مما يحمل خطر عودة الفيروس ليحصد حياة مئات الآلاف، وليصيب الملايين بالإعاقات البدنية الشديدة. ويعود ذلك إلى أسباب عدة؛ من أهمها على الصعيد الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، الصراعات المسلحة التي شهدتها المنطقة مؤخراً. ففي حالة سوريا مثلا، أدى الصراع المسلح هناك إلى نزوح وهجرة أكثر من نصف أفراد المجتمع الطبي، ولانهيار البنية الصحية التحتية في غالبية المناطق، وفقدان الأمن اللازم لتنفيذ حملات التطعيم، وهو ما أدى بالتبعية إلى عودة ظهور الفيروس في بعض مدن ومحافظات سوريا، وعبوره إلى العراق. وفي دول أخرى، تعرض القائمون على حملات التطعيم من أفراد الطاقم الطبي، للقتل من قبل العصابات والجماعات المسلحة، كما تعرضت حملات التطعيم ذاتها، للهجوم من قبل بعض رجال الدين، والذين أثاروا الشكوك بين السكان المحليين على أن الهدف منها هو تعقيم الرجال والنساء ضمن مؤامرة دينية غربية. وتظهر هذه الأمثلة، أنه على الرغم من اقتراب حلم التخلص من فيروس شلل الأطفال، إلا أنه حلم قد يذهب سدى بسهولة، إن لم يعره المجتمع الدولي الاهتمام الكافي، وإن لم تتضافر الجهود الدولية الرامية لتحقيقه. د. أكمل ع