عمل طبيب وجراح العظام السوفييتي، البروفيسور ث. ف. تروبنيكوف في مستشفيات الكويت قبل أربعين عاماً ما بين 1970 و1973، وكتب في مذكراته المترجمة ملاحظة لا تزال صحيحة عن الكويتيين، وهي «ميلهم الواضح للاختصاصيين الإنجليز، فمع كل مرض كانوا يذهبون إلى لندن للعلاج». كتاب الجراح الروسي وثيقة زاخرة بالمعلومات عن كويت السبعينيات؛ منطلق ازدهار وبروز الحياة العصرية فيها، وبخاصة أن «تروبنيكوف» لم يقتصر في تناوله على القضايا الصحية والمشاكل المرضية، بل جاء كتابه شاملاً لمختلف جوانب الحياة. وينتقد تروبنيكوف الوضع الاقتصادي في الكويت وكأنه يتحدث إلينا اليوم: «إذ لا توجد في البلاد خطة واضحة للاقتصاد، ويتم توزيع وإنفاق الموارد الوطنية بشكل غير منتظم، ولا يتم دائماً بشكل منطقي، وغالباً ما يتم بإسراف، والدولة مرتبطة بشكل كامل بسياسة الاحتكار النفطي.. وكل هذا يؤدي إلى وضع غير مستقر للاقتصاد الكويتي». نفط الكويت، يقول المؤلف، يستخرج بازدياد عاماً بعد آخر. وهناك أربعة أسباب تجعل منه النفط الأرخص في العالم، هي قرب الطبقات الحاملة له من سطح الأرض، وخاصية تدفقه ذاتياً من الآبار، وقرب حقوله من الساحل والميناء، وأخيراً وجود العمالة الرخيصة بأعداد كافية. وأدرك تروبنيكوف الزراعة في حقول الكويت في أيامها الأخيرة، أي قبل انتشار نظام تخصيص المزارع والزراعة المحمية والاعتماد على العمالة الآسيوية. وهكذا لاحظ أن «الزراعة في الكويت قطاع ضعيف للغاية بسبب نوع التربة والظروف المناخية غير المناسبة وكمية الأمطار القليلة جداً، وكذلك ضآلة مصادر المياه، والجراد المتسلط على الزراعة». وأضاف: «يمارس الزراعة في الكويت وبشكل أساسي سكان ضواحي المدن، وكذلك سكان المدن الساحلية، وفي الجهراء وفي الأراضي المروية اصطناعياً تزرع الخضروات، أما تربية المواشي فهي في وضع أفضل بعض الشيء». أجرى الاستشاري الروسي عمليات جراحية كثيرة في الكويت، ويصف بداية تجربته العملية في البلاد فيقول: «أتذكر أول يوم عمليات لي في المستشفى الكويتي.. كان عليّ إجراء أربع عمليات، اثنتان منها صعبتان للغاية، وقد جاءت مجموعة كبيرة من الأطباء لرؤية كيف يقوم بإجراء العملية الأخصائي السوفييتي، وكأنهم لم يأتوا من أجل هذا الأمر، فقد وجد كل واحد منهم لنفسه عملا في غرفة العمليات، أحدهم احتاج إلى أن يتعرف إلى كشف العمليات لليوم التالي، والثاني أن يتعرف إلى جهاز تعقيم غازي محمول جديد ويعمل بشكل نصف آلي، والثالث.. لا أتذكر لماذا أتى؟ أما الرابع فدخل غرفة العمليات فقط ليشرب فنجان قهوة ولتجاذب أطراف الحديث». ويشيد الطبيب السوفييتي بمستوى العلاج والخدمات الصحية، لكنه ينتقد «عدم إمكانية تشريح الموتى بسبب المعتقدات الدينية، مما كان يقلل من فاعلية العمل العلاجي». كما ينتقد عدم التواصل بين الأطباء: «فبعد أن ينتهي الطبيب، على سبيل المثال، من مناوبة يوم كامل، كان يذهب إلى مكان عمله دون أن يخبر الأطباء ومسؤولي الأقسام بما أنجزه من أعمال أثناء الخفارة، وأي مرضى في المستشفى تم الكشف عليهم ولأي سبب؟ وما هي الحالة الصحية للمرضى الذين تم إجراء العمليات لهم، وكنت أتمنى أن تكون علاقة الأطباء بالمرضى أفضل من ذلك.. الأطباء لم يكونوا يرعون المرضى، وإنما هذا الأمر كان من واجب الممرضات والممرضين». ومن أبرز العمليات الجراحية التي يسجل تروبنيكوف تفاصيلها، تلك التي أجراها لمريض من عُمان، كان في الـ57 من العمر، ومصاب بورم في إحدى فقرات صدره يضغط على النخاع الشوكي، لذلك بدأ يتطور إلى شلل في الأطراف السفلية. ساعد الجراح الروسي في إجراء العملية جراح مصري شاب، وبعد 45 دقيقة من بداية العملية، «أخبرني بصوت متقطع طبيب التخدير الباكستاني عن التوقف الفجائي لقلب المريض.. وعلى الفور أدخلت بالمحقنة والإبرة الطويلة من خلال جدار القفص الصدري في عضلة القلب محلول الأدرينالين، وبدأت تدليك القلب بقوة، وبعد دقيقة واحدة شعرت بدفعات ضعيفة من القلب، وظهر النبض». وبعد استصال الورم وتحرير القناة المخية من الضغط، توقف القلب فجأة، فتوقفت العملية. ومن ثم يقول تروبنيكوف: «اتخذت قراراً بفتح القفص الصدري، واستعمال التدليك المفتوح للقلب بكلتا اليدين، ولم يكن هناك شيء لأخسره، فالمريض كان ميتاً، ومضت دقيقتان تقريباً بعد وفاته. وشعرت بعد 30-40 ثانية من فتح القفص الصدري وبداية تدليك القلب بدفعات ضعيفة وانقباضات، وبدأ القلب يعمل مجدداً». وما أن عادت الأمور لوضعها الطبيعي، وتمت خياطة الجرح، حتى توقف قلب المريض للمرة الثالثة! يقول الجراح: «كان الوضع ميؤوساً منه، ورغم ذلك فتحت بسرعة القفص الصدري والذي تمت خياطته سابقاً.. ومن جديد بدأت بتدليك القلب بأصابع اليد، وبعد مرور 40-50 ثانية شعرت بانقباضات الأنسجة العضلية وظهر أمل في إنقاذ المريض، ولسعادتي الكبيرة بدأ القلب في العمل مجدداً، وتمت خياطة الجرح، ولم نفارق المريض حتى الصباح إذ ظل في غرفة العمليات. وفي الصباح التالي تم نقله إلى العنبر، وبعد شهر إلى المصحة، وبعد أربعة أشهر بدأ المشي، وبعد نصف عام غادر المؤسسة العلاجية». كتاب جدير بالقراءة.. وبخاصة من الأطباء!