كيف نجح الإسلام السياسي في امتلاك قاعدة اجتماعية، والتي رغم ضآلتها فإنه جعلها بعبعاً يخيف به ويهدد الحياة المدنية لكثير من البلدان العربية؟ يرجع نجاح بعض الجماعات المتطرفة والإرهابية في ذلك لمهارتها الإعلامية والدعائية في تسويق الوهم وجعله حلقات مسلسل مشوق ينتظر المشاهد جديده القادم في مواجهة الخطاب الديني الرسمي في معظم الدول العربية، والذي لا يعد روحياً بالقدر الكافي ولا يعبر عن رؤى الناس وتطلعاتهم الإيمانية بقدر ما هو سياسي وقومي، إذ لم يكن هناك نشوء تدريجي أو مقاربة فكرية وراء ظهوره وسط غياب الرؤية الفكرية للواقع، فكان التغريب طاغياً على الابتكار في بعضه، والعودة لعصر التدوين في بعضه الآخر، وحتى ذلك العصر ربما كان أكثر تنويراً وإبداعاً في هذا الجانب! فالميل للعنف كأسلوب خطاب مع الآخر ليس غريباً على بعض المجتمعات العربية التي تؤمن بالفروسية، والتي كانت القتل فيها يعد فضيلة وشجاعة، لذلك فللعنف جذور في الضمير الجمعي التراثي، كما أن أول ما يتعلمه الطفل في مدارس العالم العربي ثقافة الفصل الحضاري والديني العنصري وثقافة العنف وكيف أوغل المسلمون -والتركيز على العرب تحديداً- سيوفهم في صدور العدو وقتلوهم شر قتلة في فتوحاتهم وغزواتهم.. وكأن سوى ذلك لا يستحق التمجيد. فتلك المشاعر متأصلة في العقلية العربية وليست قضية تجريح للذات والنيل من تاريخ المجد العربي التليد الذي يرى العامة أنهم امتداد له. ولذلك تقسم الجماعات الإرهابية فرقها على أساس عرقي وقبلي حسب طبيعة المهمة والمنطقة الجغرافية، وتكون للعرب الريادة في العمليات الأكثر تأثيراً لكون الفخر قيمة جوهرية أصيلة في تكوين الإنسان العربي وبالتالي يصبح أي نقد أو مراجعة لموروثه في منظوره إساءة غير مبررة. من جانب آخر نعاني من التصوير الإيجابي المبالغ فيه لعظمة التاريخ العربي والإسلامي ككتلة واحدة، ليس فيها الإيجابي والسلبي، وعندما يأتي ذكر السلبي نبدو وكأننا متفاجئون. فمن أين أتى ذلك الأمر ونحن ننكر أن تكون له جذور في ثقافتنا، بل هو دخيل علينا، متناسين أن المجتمعات التي تقدمت وتحررت من مظاهر التخلف قامت بوقفة مكاشفة موضوعية مع الذات وتاريخها وموروثها الفكري والديني والقيمي وجعلت المعرفة سيد الموقف، مع أنسنة الإطار العام للمجتمع ليتبرع الطفل لديهم بمصروفه اليومي لإنقاذ إنسان، أما نحن فأطفالنا يسألون قبل أن يتبرعوا: هل المتبرَّع له مسلم أم غير مسلم؟! المراجعات الفكرية والنظر في الفشل الحضاري العربي، كل ذلك يجب أن يبدأ فوراً لنقضي على التخلف والعنف وتشويه الدين وفق معطيات تراكمية سببية وتصدعات استغلها الإسلام السياسي الانتقائي لصياغة شعارات رنانة. وانتشار كتابات الخربشات على الجدران وتمجيد تنظيم «داعش» أو التخويف منه في عالمنا الإسلامي، ما هو إلا انعكاس مباشر للسيكولوجيا الشعبية، وإن كانت في الغالب كتابات عبثية وتمرد وشغب فئات سنية، لكنها تخفي وراءها ما تخفي من الحالة العامة لنفسية المراهقين خاصة، وكيف صورت «داعش» وأخواتها نفسها للعالم، فلم يختاروا مظهرهم ولبسهم وراياتهم ولم يقطعوا الرؤوس بالسيف صدفة، وإنما لمعرفتهم بأن هناك جزئية في العقل المسلم الباطن تدغدغها تلك الأفعال، ألا وهي صورة المسلم القوي المنتصر، المسلم الذي يحمل سيفه ويخضع العالم تحت سيادته ويتقاسم السبايا والغنائم! يعتمد الإسلام السياسي على رسائل تسويقية يروج خلالها للفوضى الخلاقة، لكي يعيش بعض المهمشين بين الأسطورة والواقع، وليصبحوا ضحايا كراهية واقعهم والحلم بعودة تلك الصورة الزاهية التي تبرمج عليها عقلهم منذ الصغر! ومن يعتقد أن هناك جماعة إسلام سياسي واحدة غير تكفيرية في المجمل، فهو واهم، بغض النظر عن اختلاف المسميات والتصنيفات وإن لم تعلن أغلبها ذلك وتجهر به، فقيادات التشدد ومنظريه يجمعهم مورد عقدي مشترك، سواء أكان منبع تفسيره وشرحه من المحدثين المتقدمين والمتأخرين أو المعاصرين، حتى ممن هم يعتبرون من العلماء «الوسطيين» في تصنيف «العامة» وجهاتهم الحكومية، فهم يخفون إيمانهم بفكرة أن هناك فرقة ناجية واحدة وبالتالي تقسيم المسلمين إلى فِرق وصولاً لإعطاء العذر لغيرهم ليخرجهم من الملة. القضية ليست مجرد عدم توافق في الفكر والمذهب وليست مسألة اختلاف في المسائل الفقهية، ولكنها جمعيات وتنظيمات ورموز تكفيرية تعتبر المجتمع في معظمه إما جاهلياً كافراً أو في حكم المرتد. وتراخي «الوسطيين» في إبراز السند والدليل الشرعي المنطقي على ممارساتهم، جعل التطرف عامل جذب، وعلماء الأمة العقلانيين مجتمعين لم يستطيعوا وقف النزيف العقدي لعقود طويله ودق ناقوس خطر وجرس إنذار لبيان ضرورة تصحيح المسار وعدم الاستمرار في منهجية التعامل مع الظاهرة، وسبل مواجهتها لتحرير العقل العربي قبل فك الإسلام من أسره وصولاً لوقف الانتهاكات العالمية بحق العقيدة الإسلامية.