لشهور عديدة تعامل الرأي العام الأميركي مع خبر تفشي وباء إيبولا في غرب أفريقيا بنوع من الثقة الزائدة في النفس انعكست في تطمينات مسؤولي الصحة العمومية للمواطنين بأن المرض بعيد عن الشواطئ الأميركية، وأن تفشيه في الولايات المتحدة أمر مستبعد بالنظر إلى كفاءة المرافق الصحية الأميركية واستعدادها للتعامل مع المرض. ثم كان أن أُعلن في 24 سبتمبر الماضي عن معاينة توماس إيريك دونكان من ليبيريا في أحد المستشفيات بدالاس طوعاً بعد أن عانى من ارتفاع درجة الحرارة فجاء ليبلغ بأنه قدم من ليبيريا، ولكن المستشفى أفرج عنه بعدما حصل على بعض الأدوية، ولم يمضِ سوى أيام قليلة حتى عاد الرجل محمولاً في سيارة إسعاف ليؤكد الفحص إصابته بإيبولا وليفقد حياته في 8 أكتوبر الجاري، وهي الفترة ذاتها التي أعلن فيها عن إصابة ممرضتين كانتا تعتنيان بهذا المريض فتحولت الواقعة إلى قصة خبرية تناقلها وسائل الإعلام، مطلقة حالة من الهستيريا العامة التي رافقتها أيضاً تعليقات مثيرة وغير مسؤولة أحياناً من بعض السياسيين وقادة الرأي. ولعل ما أثار انزعاج الرأي العام أنه برغم الثقة العالية في النفس التي سعى المسؤولون الصحيون في البلد لإشاعتها تبين من خلال طريقة تعامل مستشفى دالاس مع الحادثة، أنه قد فشل في اتباع بروتوكولات الوقاية المتبعة لتفادي الأمراض المُعدية. ولأن المرض قد انطلق من ولاية تكساس المحافظة التي يقودها الحاكم الجمهوري «ريك بيري»، صاحب التطلعات الرئاسية، ويمثلها في مجلس الشيوخ السيناتور الجمهوري أيضاً «تيد كروز»، فإن التعليقات اتخذت منحى حزبياً واضحاً، حيث هاجم الليبراليون الطريقة التي تعامل بها مستشفى دالاس مع الرجل الليبيري، في إحالة إلى عدم أخذ مرضه بالجدية المطلوبة باعتباره أجنبياً أفريقياً لا يتوفر على التغطية الصحية فسارع المستشفى للإفراج عنه، مكتفياً بوصف بعض الأدوية للتخلص منه! ولكن عندما توفي الرجل في المستشفى لم يتأخر المحافظون في انتقاد أوباما لعدم اتخاذه الإجراءات المناسبة وفشله في فرض حظر على القادمين من المناطق المنكوبة في غرب أفريقيا، وذلك على رغم تأكيد الخبراء الصحيين أن مثل هذا الإجراء ستكون له تداعيات عكسية، بل إن بعض المحافظين اعتبروا رفض المسؤولين الصحيين فكرة الحظر على الأفارقة القادمين من الدول المتضررة ارتهاناً منهم لأوباما وتكريراً لمقولاته! والحقيقة أن هذا التوظيف السياسي لإيبولا وتبادل الاتهامات بين الحزبين ليس مستغرباً بالنظر إلى اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، إذ يرى الجمهوريون في الأزمة فرصة أخرى لمهاجمة أوباما واتهامه بعدم الكفاءة والفشل في التعاطي السليم مع الجائحة. ولسوء حظ أوباما أن هذه الأزمة تأتي في وقت يواجه فيه تحديات على أكثر من واجهة في سياسته الخارجية، ولاسيما في سوريا والعراق وأوكرانيا، بالإضافة إلى الملف النووي الإيراني، ولكن المفارقة أيضاً أن تفشي مرض إيبولا ووصوله لأميركا جاء فيما الاقتصاد الأميركي يشهد بعض الانتعاش ويسجل أرقاماً إيجابية تتصل بالنمو وسوق العمل. بيد أن هذا التحسن في الأداء الاقتصادي ينظر إليه العديد من الأميركيين، بمن فيهم بعض الديمقراطيين، على أنه يصب حصراً في مصلحة نسبة 1 في المئة من الأميركيين الأكثر ثراء، وأن فوائده بالكاد تصل إلى عموم الأميركيين، وهو الأمر الذي ينعكس بوضوح في معدل شعبية أوباما المتدني، ما يعني أن استمرار الأغلبية الديمقراطية في الكونجرس بات محل شك كبير. والأرجح أن يمضي أوباما السنتين المتبقيتين من ولايته في ظل كونجرس يسيطر عليه الجمهوريون. غير أن الوصول إلى البيت الأبيض في انتخابات الرئاسية للعام 2016 سيتطلب من الحزب الجمهوري أكثر من التهجم على أوباما وانتقاد سياساته. فما لم يبدِ الحزب الجمهوري استعداداً للحكم بروح تعاونية مع الحزب الديمقراطي ويطرح البدائل السياسية ستبقى حظوظه في دخول البيت الأبيض ضئيلة. فما يحتاجه الأميركيون في هذه اللحظة هو استعادة الثقة في مؤسسات الدولة، ولاسيما الكونجرس، وتأكدهم من أن الخطاب السياسي للنخبة ليس موجهاً فقط لتحقيق مكاسب في واشنطن، بل لتحسين معيشتهم وضمان مستقبل أفضل لأبنائهم، وفي نفس الوقت التعامل الجيد والكفء مع الأزمات والطوارئ سواء كانت إيبولا، أو حتى الأخطار والتهديدات الخارجية مثل الإرهاب وغيره. وفي جميع الأحوال أثبتت أزمة إيبولا الحالية التي دقت أبواب أميركا المُشرعة أن النقاش السياسي يحيد أحياناً عن الجوهر المتمثل في طرق حماية الأميركيين من انتشار المرض، ويركز فقط على التوظيف السياسي واقتناص الفرص للتهجم على الخصم، والحال أن ما يريده الأميركيون هو المزيد من الكفاءة في التعامل مع الطوارئ، وأيضاً الصراحة في الحديث إلى الرأي العام.