يبدو أن الزعيم الصيني التاريخي، دينج زياوبينج، قد عاد مجدداً إلى الواجهة، ولكن فقط على شاشات التلفزيون، فخلال السنة الجارية واحتفاء بالذكرى 110 لمولده لا توفر بكين فرصة تمر دون أن تحيي فيها ذكرى الرئيس الصيني السابق مطلق الإصلاحات الاقتصادية الكبرى أواخر السبعينيات التي كانت وراء الازدهار والانتقال النوعي الذي عرفته الصين. وهذا الاحتفال لا يخلو أيضاً من محاولات التوظيف السياسي لإرث الرجل ومكانته، حيث خصص التلفزيون الرسمي مساحة لبث برنامج وثائقي من 48 حلقة توثق لحياته ومشواره دون إغفال التلميح المبطن إلى وجود شبه مع الرئيس الحالي تشي جيبينج، في محاولة واضحة للإيحاء بأن «تشي» هو «دينج» جديد، وأنه عندما سيجتمع قادة الحزب الشيوعي في لقائهم السنوي خلال الأسبوع الجاري ستشهد الصين انبعاثاً لروح الإصلاحات الكبرى التي عرفتها في السبعينيات. ولكن يرى المنتقدون في الغرب أن عهد الإصلاحات قد ولّى وما يريده القادة الجدد هو العودة إلى ما قبل عهدها والانتكاس بعيداً إلى الوراء. ومن الناحية الأيديولوجية قطع «دينج» في مساره الإصلاحي مع بعض التقاليد «الماوية» الغارقة في الانعزالية والانكفاء ليفتح الصين أمام التيارات الخارجية، ويسمح للطلبة بالذهاب للخارج، وعندما كان قادة الحزب ينتقدون مثل هذه السياسات الانفتاحية التي تسمح بهبوب رياح التأثيرات الخارجية أجاب بجملته الشهيرة «إذا فتحت النافذة لدخول الهواء النقي فعليك أن تتوقع دخول بعض الذباب». ولكن الصين اليوم وخلافاً لانفتاح دينج زياوبينج تعيش مرحلة من الانكفاء الواضح على الذات، حيث تشدد شعارات الحزب على القيم «التقليدية» والتقاليد الراسخة، كما يتم استدعاء على نحو متزايد الخطاب الكونفوشيوسي لإضفاء الشرعية على النظام السياسي. وبالتزامن مع ذلك يتم التضييق على النشطاء ومنع بعض الباحثين في الجامعات الصينية من التعاون مع نظرائهم الغربيين. أما من الناحية الاقتصادية فقد توقفت مرحلة النمو السريع التي ميزت فترة «دينج»، فيما تراجعت الطفرة التي حركتها الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية وقطاع العقار منذ التسعينيات. وحتى الموقف من المستثمرين الأجانب الذين شرع لهم «دينج» الأبواب بدأ يتغير مع شعور هؤلاء المستثمرين بالمضايقات، بعد أن انطلقت الحكومة من خلال سياساتها في تفضيل الشركات الوطنية، وما الإعلان في شهر أغسطس الماضي عن شروع الصين في تطوير أجهزة تشغيل كمبيوتر خاصة تستعيض بها عن «ويندوز» و«أندرويد» سوى أحدث مثال لهذا التواجه الانكفائي على الذات. ولكن التغير الأهم الذي يسير بالصين إلى الوراء هو ما يمكن لمسه في السياسة الداخلية، فبصعود «دينج» إلى السلطة في أواخر السبعينيات بدأت تتراجع طريقة الحكم التي ميزت «ماوتسي تونج» وتخفف من بعض التقاليد الشمولية التي كانت سائدة من قبل، مفضلاً القيادة الجماعية التي يطغى عليها البحث عن التوافق، وهذا المسار الجماعي للنخبة ربما يتعرض لتراجع اليوم بعد أن سعى الزعيم الجديد إلى تركيز السلطة في يده. فما الذي يفسر مثل هذا التغير؟ الحقيقة أن السبب الحقيقي يكمن في ردود الفعل الشعبية السلبية من مرحلة الإصلاحات التي قادها «دينج»، فهي وإن كانت قد شهدت نمواً اقتصادياً لافتاً وازدهاراً ملحوظاً، إلا أنها ترافقت مع إصلاح وتراكم للثروة دون مراجعة النظام السياسي الذي ظل على حاله، والنتيجة طبقة من الرأسماليين «الشيوعيين» الذين جمعوا الثروة واستفادوا من الانفتاح على حساب بعض تطلعات الشرائح الأوسع من الناس. وإذا كانت ملامح الازدهار والغنى تلك مناسبة لجيل من الصينيين انبثق لتوه من مرحلة «ماوتسي تونج» الصعبة، إلا أنها ما عادت تناسب الجيل الحالي، وهو الأمر الذي سينطوي على تداعيات سياسية سلبية وهذا ما تدركه القيادة الجديدة للحزب الشيوعي وتسعى لتفاديه. ولكن بدلاً من فتح النظام السياسي ليساير الإنجاز الاقتصادي قد نرى زعماء الحزب يعودون به إلى ما قبل «دينج» من خلال تقييد حرية التعبير واستدعاء الماضي والتخفيف من حدة الفوارق المثيرة لنقمة الشعب. والحال أن معالجة الإشكالات التي تواجه الصين اليوم تتطلب قبل كل شيء التصدي للعوامل السياسية الكامنة وراءها، والمتمثلة أساساً في تركيز السلطة على نحو مفرط وبعيد عن الرقابة في أيدي القلة التي أدت بدورها إلى ظهور حزمة واسعة من المصاعب السياسية والاجتماعية. كارل مينزنر أستاذ بكلية القانون بفوردهام ومتخصص في القانون والسياسة الصينيين ينشر بترتيب خاص مع خدمة «إم. سي. تي. إنترناشونال»