لم تزل الأحداث العربية الحالية تبرهن لنا يوماً بعد يوم، أن الذي جرى طوال السنوات الأربع الماضية لم يكن حدثاً فارقاً في تاريخنا المعاصر. حين بدأت هذه الاضطرابات أو «الثورات» أو «الربيع العربي» كان المشهد أخّاذاً وحماسياً، كانت الصورة للوهلة الأولى رومانسية، وعلى حد تعبير أدونيس الذي دخل على خط نقد الثورات، فإن الذي جرى في تونس كان تغييراً ناعماً سهلاً، وحينها صارت الصورة التي اجتذبت الملايين من العرب «رومانسية»، لهذا يعتبر أدونيس أن تأييد الثورة التونسية كان طبيعياً في سياقه الظرفي، بيد أن الحدث المصري وما تلاه وما تضمنه من أحداث كان كافياً لأن تعيد أقلام قليلة رأيها بالذي يجري. كثير من المفكرين العرب كانوا متفائلين بهذه الثورات، ومنهم المفكر اللبناني علي حرب في كتابه «ثورات القوة الناعمة: تفكيك الديكتاتوريات والأصوليات»، وكذلك حسن حنفي، وبرهان غليون، وغيرهم كثير. علي حرب اعتبر في كتابه «الناشط» هو الفاعل الحقيقي، وأن المثقف زال دوره وانتهى، ليحل محله الفاعل الاجتماعي، عبر المجتمع الرقمي، والزحف المعلوماتي. وهي صورة رومانسية حالمة بطبيعة الحال، لأن الناشط أو الفاعل الرقمي، غرق في الدم بما أثبتته الأحداث في ليبيا ثم في سوريا واليمن أيضاً، وهكذا، لم يعد الحدث مدهشاً وآسراً وساحراً! حين حمل بعض المتظاهرين التونسيين كسرة الخبز في الثورة، والتزموا بالحراك السلمي، لم يكن أحد يتحدث عن خطأ هذا الربيع، بيد أن الوجهة الأصولية، وتحوّر المشهد لصالح قوى الظلام، هو ما أشعل الخطاب النقدي ضد هذا الربيع، وجعل البدء بعملية فكرية منظّمة لمواجهته ضرورة قصوى. جاء الأصوليون من منافيهم في مشهد درامي مؤلم، فتحولت تضحيات النساء والعجائز والأطفال والشباب في سنّ الزهور، إلى مطايا في سبيل الوصول إلى عرش الحكم وسدة الرئاسة! ذهب وائل غنيم ورفاقه، وحل مكانهم محمد مرسي وبديع وخيرت الشاطر! انزوى أثر البوعزيزي لصالح الغنوشي ومن معه، وتضاءل الدور الشبابي في اليمن لصالح حزب «الإصلاح»، ومن بعدها عدوان لا يقل عنه بما تمثّله «الحوثية» من إقصاء وإلغاء! في آخر المطاف، اكتشف الناس أن الذي جرى ويجري هو حالة من الفوضى العارمة غير المبررة! الديمقراطية ليست مستورداً يأتي بالحراك، بل هي ثمرة مخاض وتراكم، والنموذج الأعلى والأنجح في الديمقراطية لم يتبلور حقيقةً بالمعنى المؤسسي المفصّل إلا في أوروبا وأميركا، وبقية النسخ الديمقراطية في آسيا معقولة لكنها ليست نموذجية، من هنا تحدث عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر» عن محورية أوروبا في نموذج التنوير، ذلك أن تقليده أو استنساخه لا يعني النجاح أو التمكين. من بين النظريات الأقرب إلى واقعنا ما طرحه جمال الدين الأفغاني عن «المستبد العادل» ذلك أن الجموع لا تحكم ببراعم الورود وقصائد شعر الحرية، بل بالعدل والأمن والقوة مع نفي الظلم وعدم العدوان، وحفظ حقوق الناس.. إنه المعنى الناجح للمجتمعات العربية على مر تاريخها، فعن أي ثورة نتحدث الآن؟!