قبل بضع سنوات، ألقيت محاضرة لمجموعة من خريجي جامعة برينستون حول الدور الحيوي الذي يلعبه القادة في المفاوضات العربية الإسرائيلية الناجحة. ولأنني بذلت جهوداً في عملية السلام في الشرق الأوسط لأكثر من 20 عاماً، فقد خلصت إلى استنتاج مفاده أن القادة الذين لديهم العزيمة هم الذين توصلوا إلى الاتفاقات التي تدوم. وأصر أحد الخريجين على أنني مأخوذ بآراء الكاتب والمؤرخ «توماس كارليل» ونظرية «الرجل العظيم» التي وضعها. واحتجت ناقدة أخرى، وهي أستاذة من تركيا، قائلة إنني تجاهلت تماماً القوى الاجتماعية والاقتصادية الأوسع والتي في الواقع تدفع وتقرر التغيير. لكنني ذكّرت الأستاذة أنها تتحدر من أرض تمكن فيها رجل واحد، هو مصطفى كمال أتاتورك، من إحداث تغيير جذري في التاريخ الحديث لبلادها. إن التاريخ يقوده التفاعل بين قدرة الإنسان على الاختيار والظروف. وبناءً على تجاربي في الحكومة والمفاوضات، فإن الأفراد لهم أهمية كبيرة في هذا المزيج، خاصة فيما يتعلق بالحرب والسلام وبناء الدول. وأكد المؤرخ «جون كيجان» أن الجزء الأكبر من القرن العشرين ما هو إلا قصة - أو في الواقع السير الذاتية - لستة رجال، وهم لينين وستالين وهتلر وتشرشل وروزفلت وماو. وأينما تتعرض لقضية دور الفرد في التاريخ، فإن دوره يجب أن يُحلل من خلال هذه المعادلة، خاصة عند تفسير نقاط التحول في تاريخ الأمم. ومع ذلك، فإن الأستاذة التركية كانت ترى أننا نُعجب بالقائد الجريء الذي يسعى لإحداث تغييرات جوهرية ونقلل من قيمة القائد الحذر الذي يتفاوض ويقبل نتائج أقل دراماتيكية. ونميل أيضاً إلى نسيان أن القادة العظماء عادة ما يظهرون في أوقات الأزمات الوطنية والحاجة الماسة لعودة هؤلاء القادة. فنحن نسعى إلى محاولة فهم ما تمثله القيادة العظيمة. ونحن الآن في القرن الـ21، وقد مرت سبعون عاماً كاملة بعد عهد القادة الستة الذين أدرجهم «كيجان» والذين حاولوا إما السيطرة على العالم أو إنقاذه. والآن، أين هم عمالقة الماضي، المحولون الذين غيروا العالم وتركوا موروثات عظيمة؟ العديد من أكثر القادة سوءاً جاؤوا وولوا - بول بوت وعيدي أمين وصدام حسين ومعمر القذافي وسلوبودان ميليسوفيتش - وجاء أيضاً بعض من أعظم القادة مثل شارل ديجول وكونراد أديناور وأنور السادات وميخائيل جورباتشوف والبابا يوحنا بولس الثاني ونيلسون مانديلا. وقد يبرز القادة من أماكن لا تخطر على البال وفي أوقات غير متوقعة. فكر في أبراهام لينكولن والمهاتما غاندي ومارتن لوثر كينج. ومن يدري أياً نوع من القادة يخبئه لنا المستقبل؟ ولكن الأمور لا تبدو مشرقة اليوم. إننا نواجه عجزاً في النسب العالمية للقيادة. وفي الواقع، يبدو أننا الآن في عهد ما بعد القيادة البطولية. واليوم، تضم الأمم المتحدة 193 دولة، من بينها 88 ديمقراطية حرة وفعالة. أما الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، والتي تسمى بالقوى العظمى- الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا- فلا يقودها زعماء عظام قادرون على إحداث تحول. ولا تفخر الدول الصاعدة، مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، بأن لديها قادة أقوياء. وبالطبع، فإننا نرى قادة بارعين في الحفاظ على السلطة والاحتفاظ بمقاعدهم لسنوات طويلة، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فهي بالطبع زعيمة قوية وسياسية محنكة. لكن أين هم القادة الذين نستطيع وصفهم بأنهم عظماء أو بطوليون أو ملهمون؟ وكم قائداً يمكننا وصفه بأنه ليس فقط عظيماً، ولكنه كذلك جيد بمعايير الرحمة والأخلاق الرفيعة؟ اليوم، إذا ما اضطررت لتحديد قائد ربما يكون عظيماً، فلا أجد سوى شخصية دينية هي البابا فرنسيس الأول. ويتجلى هذا الفراغ في القيادة بصورة أكبر في سياسة الولايات المتحدة، أعظم وأبرز دول العالم. وبالطبع فإن العظمة ليست مفقودة في القصة الأميركية. وبالرغم من الحديث عن التراجع، فإن الولايات المتحدة تظل القوة العظمى الوحيدة في العالم، مع أفضل توازن في القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، ناهيك عن القوة الناعمة، أكثر من أية دولة في العالم. ومع ذلك، فمن المفترض أن الدول العظمى يكون لديها قادة عظام أيضاً، أليس كذلك؟ وبدلا من ذلك، فإن التركيز هنا يكون على عجز القيادة، والحالة المزرية لسياستها المختلة. وليس من المستغرب أن القلق حيال العجز في القيادة لدى الطبقة السياسية يمتد أيضاً إلى مؤسسة الرئاسة التي أصبحت، سواء أكان ذلك للأفضل أو للأسوأ، العنصر المركزي في نظامنا السياسي. لقد كانت الرئاسة على الدوام عملا غير محتمل، لكن المزيج التالي من التحديات والقيود قد جعل الرئاسة ما بعد الحرب العالمية الثانية أكثر صعوبة: القيود الدستورية والعملية المفروضة على المنصب، وتوسيع نطاق مسؤوليات الرئيس وتوسيع دور الحكومة، والدور العالمي لأميركا، ووسائل الإعلام المتطفلة والمنتشرة في كل مكان. كل هذه التحديات خلقت رباطاً رئاسياً مطلقاً. فمن ناحية، أصبحنا نعتمد على الرئاسة في نظام يرتكز على الرئيس. ومن الناحية الأخرى، فإن تطلعاتنا قد زادت، بينما تضاءلت قدرة الرئيس على الوفاء بها. وجوهرياً، فقد ضعنا في نوع من مثلث برمودا الرئاسي، هائمين بين الرؤساء الذين ما زلنا نريدهم وأولئك الذين لم يعد بوسعنا الحصول عليهم. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»