قمع الصين للمعارضة السياسية، من هونج كونج إلى شينجيانج، وعلاقاتها الوثيقة مع روسيا وإيران وكوريا الشمالية، أجهضا الحلم الذي كان يراود زعماء غربيين كثيرين منذ التسعينيات: إن «الانخراط البنّاء» مع الصين لا بد أن يؤدي في الأخير إلى مزيد من الانفتاح والديمقراطية. ولكن بدلاً من ذلك، حدث العكس: ذلك أن الصين باتت أكثر ثقة، وأكثر ميلا لتأكيد قوتها، وأكثر انغلاقا. وبعد مرور خمسة وثلاثين عاما على تحرير دنج زياو بنج للاقتصاد، يستغل الحزب الشيوعي اليوم الرخاء المادي والأيديولوجيا القومية للحفاظ على شرعيته أمام التوترات الاجتماعية المتزايدة، ويرفض الانتقال نحو الديمقراطية وقبول حقوق الإنسان والحقوق المدنية التي كان الأميركيون يأملون أن تظهر مع الصعود الاقتصادي المذهل للصين. ولعل الأكثر إثارة للقلق هو أن سياسة الصين الخارجية تقوم على حساب صرف للمصلحة الذاتية على حساب المؤسسات والمعايير والالتزامات الدولية التي تسعى الولايات المتحدة للانتصار لها، وأنها باتت تنظر إلينا على نحو متزايد باعتبارنا منافسا وخصما ممكنا. فما الذي حدث؟ خلال السبعينيات، عندما قامت الولايات المتحدة والصين بتطبيع علاقاتهما بشكل كلي، سعت بكين إلى عقد شراكة استراتيجية مع واشنطن من أجل ردع ما كانت تعتبره تهديداً سوفييتياً. وبحلول أواخر الثمانينيات، لم تعد الصين قلقة بشأن السوفييت، ولكنها ظلت راغبة في الاستماع إلى جيشنا والتعلم منه. وكان الصينيون مبهورين بشكل خاص بما أنجزناه في حرب الخليج عام 1991. وفي الأثناء، بنت الصين قوتها الزراعية والصناعية والتكنولوجية؛ وكان التحديث العسكري أولوية من الدرجة الثانية. ففي 2005، مثلا، كان إعجاب الصين بالولايات المتحدة – والوعي بقوتها الصاعدة الخاصة – كبيرا لدرجة أن أحد زعماء الحزب الشيوعي - وكان شابا وذا علاقات مع الجهات النافذة - قال لي: «إن الصين تعرف أنكم وبريطانيا كنتم أصدقاء مقربين، وبريطانيا أعطتكم زعامة العالم؛ والصين تريد أن تكون صديق أميركا المقرب حتى تعطونا زعامة العالم». وإذا كانت ثمة نقطة تحول في نظرة الصين للولايات المتحدة، فيمكن إيجادها في الأزمة المالية عام 2008 وما بعدها. فإذا كانت الصين مازالت تكنّ الاحترام لقوتنا العسكرية، فإنها بدأت تنظر إلى الولايات المتحدة كنظام بدأ يفشل، نظام اقتصاده مثقل بالديون وحكومته مختلة، ويمكن أن يزاح قريبا عن زعامة العالم. بيد أن الصين لا تسعى للنزاعات – فهي تستطيع تحقيق معظم أهدافها عبر المزاوجة على نحو ماهر بين الدبلوماسية التقليدية وقوتها الاقتصادية الكبيرة. ولكنها لن تتجنب النزاعات، لأنها سبق أن استعملت جيشها في الماضي «بشكل وقائي» وليس بشكل دفاعي. وعليه، فإن أحد الأخطار الممكنة يتمثل في أن الصين الصاعدة والساعية للحصول على الاعتراف بقوتها وحقوقها، ستتسبب في اندلاع نزاع، سواء بشكل متعمد أو نتيجة سوء تقدير. ولكن المشكلة الاستراتيجية الأكبر بالنسبة لأميركا تكمن في التحدي الصيني للهندسة العالمية الخاصة بالتجارة والقانون والتسوية السلمية للنزاعات التي أنشأتها الولايات المتحدة وحلفاؤها عقب الحرب العالمية الثانية. فصعود الصين الاستراتيجي اليوم بات يهدد كل هذا. وتماماً مثلما سعت الولايات المتحدة إلى جعل السلوك الدولي يتبنى قيما ديمقراطية وعادات أميركية، فإن الصين ستسعى وراء هياكل وعلاقات تدعم الحكم الشيوعي في الداخل وسياستها القائمة على عدم تدخل البلدان في الشؤون الداخلية لبعضها البعض. غير أن طغيان المصلحة الذاتية الصرفة كمبدأ موجِّه سيعني تقويضاً أساسياً للمؤسسات والقيم الغربية، مثل حكم القانون. وعليه، فالسؤال، مثلما يقول هنري كيسنجر، هو «ما إن كانت الصين ستستطيع العمل معنا لإنشاء بنية دولية حيث يتم، ربما لأول مرة في التاريخ، دمج دولة صاعدة ضمن نظام دولي وتعمل على دعم السلام والتقدم». علينا ألا نكون واهمين بشأن الطريق الصعب الذي ينتظرنا. فبعض التقديرات تشير إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للصين يمكن أن يتجاوز نظيره الأميركي في غضون العقد المقبل. وبحلول ذلك الوقت، ستتعاظم القوة العسكرية الصينية (من قبيل حاملات الطائرات، والتكنولوجيات المتعلقة بالطائرات والغواصات والصواريخ الباليستية، وكلها يمكن أن تصبح موجهة ضد حاملات الطائرات الأميركية في بحري شرق الصين وجنوبها). غير أنه يتعين على الصينيين أن يفهموا أن لقدراتهم العسكرية الآخذة في التوسع عواقب ونتائج. وعلى سبيل المثال، يجب على الولايات المتحدة ألا تستبعد ضرورة تعزيز نظامها الصاروخي الباليستي الدفاعي، في وقت تسمع فيه قعقعة صواريخ الصين الباليستية العابرة للقارات. وعلينا أن نكون صرحاء جدا في شرح ذلك للصينيين. في الوقت الراهن، تراقب الصين عن كثب الأحداث في أوكرانيا وما تعنيه تصريحاتنا وتحركاتنا هناك لآسيا. وفي هذا الصدد، علينا أن نساعد الصين على أن تدرك أن اصطفافا أكبر وأكثر تأكيدا للقوة مع روسيا لن يؤدي إلا إلى استفزاز الولايات المتحدة وحلفائنا. فالاستدارة الأميركية إلى آسيا سياسة منطقية ومعقولة، ولكنها يجب ألا تكون على حساب التزاماتنا تجاه حلفائنا في أوروبا وأماكن أخرى. ولعل الأهم من ذلك هو أن على الولايات المتحدة أن تعمل على إقناع الصين بأن مصالحها لا تكمن في المبالغة في تقدير قوتها وقدراتها الذاتية، من قبيل السعي لتوسيع نطاق نفوذها الإقليمي، وإنما في تحمل مسؤولية مشتركة عن زعامة عالمية تنسجم مع غناها وقوتها. فمؤسسات الحكامة العالمية – الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي وغيرها – لا تتصف بالكمال، ولكنها تظل مع ذلك أفضل إطار لتأمين وحماية السلام والرخاء في العالم. وإذا قررت الصين أن تدير ظهرها لهذه المؤسسات، فإنها ستجد نفسها معزولة وفي موقف ضعيف مهما بلغت من القوة والعظمة! ------ ويسلي كلارك جنرال أميركي متقاعد وقائد سابق لقوات «الناتو» في أوروبا ----- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»