من المؤكد أن آخر شهادة تحتاجها دولة الإمارات لجهودها في محاربة الإرهاب الذي يهدد المجتمعات المستقرة في العالم هي شهادة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي انتقد موقف الإمارات في محاربة الإرهاب قبل أن يعتذر عن تصريحاته التي أطلقها في محاضرة له في جامعة هارفارد مؤخراً، دون دليل أو إثبات، وهي تؤكد على ارتباك الموقف الأميركي حول ما يجري في العالم. مبدئياً، بايدن شخص محنك في السياسة الخارجية وفي معرفته بالمنطقة، كونه كان عضواً في مجلس العلاقات الخارجية في الكونجرس الأميركي، وبالتالي فإن أي تبرير منه بأنه لم يقصد الاتهام، أو أنها «هفوة»، أو أنه لم يقصد الإمارات.. مسألة فيها شك، خاصة أن الاتهام جاء دون أن يوجَّه إليه أي سؤال من الجمهور، وإنما ورد ضمن سياق حديثه، كما أنه في المقابل لم يذكر دولا في المنطقة يعتبرها كثيرون سبباً رئيسياً فيما يحدث في المنطقة من فوضى. موقف الإدارة الأميركية الحالية في الكثير من ملفات المنطقة «ملتبس» بالنسبة لكثير من المراقبين، وهو غير واضح بما فيه الكفاية في محاربة جماعات الإسلام المتطرف، بما فيها «داعش»، على اعتبار أنها قبلت تشكيل الحلف الدولي بعدما تم «ذبح» الصحفي الأميركي بطريقة هيجت الرأي العام في الولايات المتحدة، بل إن هذه السياسة الأميركية يحسبها بعض المراقبين «متواطئة» في ملفات أخرى مع ما يحدث في المنطقة من فوضى، على اعتبار أنها تساعد على إعادة تشكيل المنطقة ضمن استراتيجية «الفوضى الخلاقة». وهناك الكثير من المواقف التي توضح هذا الالتباس أو الارتباك، وقد أكد الرئيس الأميركي أوباما ذلك في موقفين مختلفين؛ الأول عندما اعترف بالتأخر في التدخل لمواجهة الجماعات المتطرفة، وكأنه يعترف بتجاهله لنصيحة الأصدقاء في المنطقة، ومن بينهم الإمارات، عندما أكدت أن مواجهة الإرهاب مسؤولية دولية. الموقف الثاني عندما أوضح أنه لا يملك استراتيجية واضحة لمحاربة «داعش»، على اعتبار أن هناك وجهتي نظر في أسباب نشوء هذه الجماعة؛ فهو يريد إسقاط «داعش» دون القضاء على سبب ظهورها، وهو نظام بشار الأسد في سوريا، ودون وضع حد للتدخلات الإيرانية في الشؤون العربية، خاصة في العراق وسوريا، والآن اليمن. موقف الإمارات المتمثل في ضرورة التخلص من الإرهاب أو محاربته كي لا يتمدد، هو الهم الأول لها في الداخل والخارج، وهو الموقف الراسخ منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وتشهد عليه كل الجهود السياسية والأمنية التي بذلتها في العالم، وبالتالي ليس منطقياً أن يتهم بايدن الإمارات بمثل تلك الاتهامات العارية من الصحة، وهو يدرك حجم تلك الجهود، غير أنه وجد نفسه في مأزق استراتيجي إزاء ما يحدث في المنطقة. إن فوز الطالبة الباكستانية ملالا يوسف زاي بجائزة نوبل للسلام، هو اعتراف عالمي بجهود الإمارات في مجال مواجهة الإرهاب، على اعتبار أن الإمارات هي الدولة التي وقفت مع هذه الطفلة من أول يوم تعرضت فيه لهجوم من أحد أعضاء حركة «طالبان» كاد ينهي حياتها، فوقفت الإمارات متحدية الإرهاب. كما أن جهود الإمارات في تحقيق السلم والأمن الدوليين، مثل المشاركة ضمن القوات الدولية في العراق وأفغانستان لإعادة السلم والأمن لا يمكن أن يغيب عن الإنسان العادي، فما بالك بشخصية رئيسية ضمن فريق صغير يصنع القرار الأميركي؟ موقف الإمارات من «داعش» هو رمز صغير لمواقفها السياسية المتعددة ضد الإرهاب والتطرف في كل مكان في العالم، لكن المسألة أن لدى الإدارة الأميركية الحالية ما يداعب مخيلتها تجاه ما يحدث في المنطقة، خاصة في ما يعرف «بالمهادنة» مع إيران التي تسعى إلى الاستفادة مما يحدث دون أن تدفع ثمناً سياسياً. وبمعنى آخر، قد تكون الأسباب والأولويات في نظر بايدن بين الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة غير متطابقة تماماً. فإسقاط نظام بشار الأسد ليس أولوية بالنسبة لبايدن والإدارة الأميركية، والتمدد الإيراني من وجهة نظرهم ليس سبباً في وجود تطرف مذهبي! قرأت خبرين منفصلين يحملان مؤشرات غير مريحة للقضاء على «داعش»؛ الأول عن وجود رجال دين في السعودية يؤيدون «داعش» سراً ولكنهم لا يستطيعون فعل ذلك في العلن، وهذا التأييد أحد مؤشراته التحاق الشباب السعودي بـ«داعش» بوصفه حركة سنية استطاعت وقف التمدد الإيراني الطائفي في العراق. والخبر الثاني أن لـ«داعش» تأييداً في سوريا، وأن المواطنين ينتظرون وصولها كي يرحبوا بها لأنها قوة سنية يمكن أن تقضي على النظام الموالي لإيران هناك وفي لبنان. وأكبر خدمة يمكن أن يقدمها جو بايدن لحلفائه في المنطقة إذن- إذا كان يريد ذلك- أن يعترف بدورهم وأن يشاركهم في جهودهم في التخلص من أسباب الإرهاب. إن الإدارة الأميركية تواجه انتقادات كثيرة من الداخل الأميركي، مثلما فعل نائب الرئيس الأميركي الأسبق ديك تشيني الشهر الماضي، في محاضرة ألقاها في واشنطن أمام مركز الأبحاث المحافظ، «أميركان إنتربرايز إنستيتيوت»، وكذلك وزير الدفاع السابق ليون بانيتا الأسبوع الماضي بشأن سياستها في مواجهة «داعش» والنظام السوري. وإذا كان بايدن قد اختار الإمارات لتوجيه انتقاده، فأظن أنه أخطأ العنوان، باعتبار أن جهود الإمارات واضحة للرأي العام العالمي، وبالتالي يكون قد خسر الرهان. ما يطرحه بايدن إما أن يكون من ضمن سياسة الهروب من الواقع السياسي الذي تسببت فيه الإدارة الأميركية الحالية أمام الرأي العام العالمي، وإما أن يكون اعترافاً منه بأن موقف الإمارات مما يحدث في المنطقة كان أكثر دقة من الموقف الأميركي، خاصة أن الرأي العام الإقليمي، مستاء من السياسة الأميركية في الكثير من «الملفات المفتوحة»، ومنها ملف السلام الفلسطيني الإسرائيلي والتمدد الإيراني واستمرار نظام بشار الأسد، وكذلك دعم الإدارة لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة. المطلوب من بايدن هو امتلاك الحد الأدنى من المنطق، وأن تتحمل إدارته المسئولية عما يحدث بسبب سياسة التراجع والتردد.