من متمرّدين على الدولة إلى حكّام لهذه الدولة، ومن ميليشيا في صعدة إلى «جيش» في صنعاء فالحُديِّدة غرباً ومأرب شرقاً وصولاً إلى باب المندب جنوباً. قد تنمّ مسيرة «الحوثيين» عن ذكاء خارق أو غباء صارخ، وقد تعكس قوة كامنة أو انتفاخاً غير طبيعي للذات، لكنها في مختلف الأحوال لا تشي بأن لديهم مشروعاً يمنياً، ومن أجل اليمن، بلدهم ووطنهم المفترضين، ولا من أجل اليمنيين، أهلهم وشعبهم المفترضين أيضاً. فلو كان لديهم مشروع بهذه الروح لتصرّفوا على نحو مغاير تماماً، أي لما وضعوا الدولة والجيش والمجتمع في مجازفات الانهيار والتفكك والانقسام وتدمير الذات. كانت طهران أول مَن رحّب رسمياً بـ «الاتفاق» بين عبدالملك الحوثي وجمال بن عمر، فيما كانت صنعاء تنفي حصوله، وقبل ساعات من إعلان المبعوث الأممي أن «الاتفاق» حصل. بعد أقلّ من ثمانٍ وأربعين ساعة كان «الحوثيون» يجتاحون العاصمة، ويحاصرون منشآت ومواقع ومنازل، مستكملين الاختراق الذي بدأوه قبل أيام. وعندما استُجلس رئيس البلاد وممثلو القوى السياسية للتوقيع على «اتفاق السلم والشراكة»، كانت صنعاء قد سقطت عملياً في أيدي غزاتها والمتواطئين معهم من داخلها، وتواصل تفتيشها وتمشيطها في الساعات والأيام التالية، كما لو أنه تنفيذ لـ «الاتفاق». ولم يستفق الآخرون، بمن فيهم المبعوث الأممي، من صدمة الخديعة إلا بعدما أنجز الحوثيون المهمة. كانت طهران وحدها تعرف ماذا عنى ذلك «الاتفاق»، لأنها تابعت تفاصيل مفاوضات الحوثي - بن عمر بما يقرب من البث الحي المباشر. وعلى سبيل الشكر والامتنان، هاجم «الحوثيون» مقر «الأمن القومي» لإطلاق ضباط إيرانيين معتقلين منذ يناير 2013 في قضية الباخرة «جيهان 1»، التي ضبطت فيها أسلحة إيرانية. هذا الإجراء العملي الأول كان إيذاناً بأن دولة اليمن التي يعرفها العالم ويعترف بها قد انتهت. كل ما بقي من تلك الدولة، هو الرئيس عبد ربه منصور هادي، فقط لأن «الحوثيين» يحتاجون إلى «شرعيته»، لكن إلى حين. ولعل اللحظة الراهنة توحي بأن ثمة سباقاً خفياً بين نفاد صبر الرئيس واستقالته، وبين إقدام «الحوثيين» على إرطاحته. ففي ظل تلك الشرعية مرّروا انقلابهم على الدولة، وقبضوا على الجيش وسائر المؤسسات. ولا يزال الرئيس يأمل بأن وجوده وحده كفيل بوقف الجموح «الحوثي» عند حدّ معيّن، بل بما هو أكثر من ذلك: بالحؤول دون اشتعال حرب أهلية، بل ب «تنفيذ مخرجات الحوار الوطني». لا شك أن من حقه أن يصرّ على هذه المبادئ، لكن «الحوثي» يعتبر الآن أنه قام بما يسميه «ثورة 21 سبتمبر»، وهو يعني أن ثورته تجبّ ما قبلها، بما فيه مخرجات الحوار وحتى «اتفاق السلم والشراكة» باعتبارها مجرد حبر على ورق وإنْ مَهَرَها أيضاً بتوقيعه. فما حصل منذ تنحّي علي عبدالله صالح، يبدو الآن كما لوكان مرحلة انتقالية بين نظام الرئيس السابق والنظام «الحوثي»، وكل ما عدا ذلك كان إلهاءً للجمهور، إذ شارك «الحوثيون» في الحوار الوطني، ورغم اعتراضهم على بعض التوافقات، فإنهم لم يفتعلوا أي عراقيل كما فعل ممثلو حزب صالح أو «الحراك الجنوبي»، لكنهم لم يُشعِروا الآخرين بأنهم جزء من النسيج اليمني. تركوا الحوار يؤسس ليمنٍ افتراضي، فيما هم يتهيّأون لغزوات اليمن الواقعي. لم يُبدوا سوى اعتراض مبدئي على «الأقاليم الستة»، لأنهم كانوا يعدّون لخريطة أخرى. لكن السؤال الذي يُطرح هنا هو أين كان الآخرون؟ وأين هذا الكمّ من الأحزاب التي تُعتبر نخباً؟ وكيف جهلت أو تجاهلت أو تغافلت عن مشروع بدأ يعلن عن نفسه - ميدانياً - عشية التوقيع على مخرجات الحوار، واتضحت نياته قبل الإعلان عن الأقاليم الستة، وكيف اتفق أن تكون هناك قوى سياسية في الحكومة ومؤيدة لما يسمّى «الجرعة» (رفع الدعم عن الوقود) ومع الزحف الحوثي ضد «الجرعة»؟ وفي المقابل أين كان الرعاة العشرة لـ «المبادرة الخليجية»، بل أين أصبحت هذه «المبادرة» الآن، ولماذا بدت رعايتهم مبالغة في الثقة رغم الثغرات التي نخرتها سواء من جانب الرئيس السابق أو «الحوثيين» أو انفصاليي الجنوب أو حتى تنظيم «القاعدة»؟ لقائل أن يقول إن ما جرى توريطاً للحوثيين، ولإيران من ورائهم، أو أنهم سيفشلون ويغرقون في المشاكل كونهم لا يملكون كوادر بشرية قادرة على إدارة الدولة، أو أنهم سيصطدمون بـ «القاعدة» وبالتأكيد سيدوم الصراع طويلاً بينهم وبين خصومهم الإسلاميين. لن يصدّق أحد أن اليمنيين ورعاتهم اختاروا المراهنة على منحى «تجريبي» كهذا آملين بأن يأكل المتصارعون بعضهم بعضاَ، وما حصل فعلاً هو أن «الحوثيين» حققوا نقلة في الصراع الإقليمي، وبات اليمن محكوماً باحتمالين: إما سيطرة «حوثية» قد تكون ممكنة من دون أن تحقق أي استقرار داخلي، وإما صراع أهلي طائفي مفتوح يعم مختلف أنحاء البلاد، وهو المرجّح حالياً، للأسف.