لاشك أن حركة احتجاجات طلبة هونج كونج، تعتبر هي أكبر تحدٍّ سياسي خطير تواجهه السلطات الصينية منذ أحداث ساحة «تيانانمين» في عام 1989. وبالنظر إلى الدور المهم الذي تلعبه الصين اليوم على الساحة الدولية (وهو أهم بكثير من دورها قبل 25 عاماً)، فإن تداعيات هذا الحدث الجديد ستكتسي أهمية استراتيجية كبيرة. وإذا كانت الصين قد صارت أكثر قوة بما لا يقاس مقارنة مع حالها قبل 25 عاماً، إلا أن هوامش تصرفها باتت أيضاً محدودة بشكل كبير. وهذا هو الوجه الآخر من مفارقة العولمة، فقد سمحت للصين بتحقيق معدلات نمو اقتصادي مذهلة، ولكنها في المقابل عززت أيضاً وزن الرأي العام والقدرة على التعبير عن الموقف في صفوف المواطنين الصينيين ومنظمات المجتمع المدني. ولئن كان بزوغ الصين وصعودها الاقتصادي زاد نفوذها وتأثيرها في تسيير مجريات الشأن الدولي، فقد زاد أيضاً ترابطها مع بقية العالم وجعل الوقت الذي تستطيع فيه أن تنأى بنفسها عن أي تفاعل أو تأثير خارجي زمناً آخر، مضى وانقضى إلى غير رجعة. وقد أعيدت جزيرة هونج كونج إلى الصين في عام 1997، واعتبرت هذه الاستعادة يومها انتصاراً دبلوماسياً وسياسياً مؤزراً حققته بكين، ولكن مع مرور الوقت ظهر اليوم أن ذلك كانت له آثار عكسية، لم تكن متوقعة. فمواطنو هذه المدينة يتمتعون بوضع خاص، ولديهم حقوق تعلو على ما لدى بقية الصينيين. وهم لا ينتظرون فقط تلقي الخدمات، وإنما أيضاً يريدون تنميتها وزيادتها. وبحكم الوضع الخاص الذي يتمتع به سكان الجزيرة فإنهم يفلتون جزئياً من أن تضع بكين اليد على أمورهم كاملة. والأرجح أن مطالباتهم ستذهب على الضد لتمتد آثارها إلى مجمل المواطنين الصينيين الآخرين، الذين يتوقع أن يبدوا إرادة أصلب في المطالبة بحقوقهم هم أيضاً. وإذا كانت الصين ليست ديمقراطية على الطريقة الغربية، فقد انتهى أيضاً الزمن الذي كان فيه المواطن الصيني (حين كان لا يستحق هذه التسمية إلا بالكاد) محروماً من أي مصدر آخر للأخبار سوى صحيفة الشعب اليومية، أو عندما كان الصينيون يلوّحون، وهم يرتدون زياً موحَّداً، معاً، بـ«الكتيّب الأحمر» للزعيم «ماو تسي تونج». وبعيداً عن كل هذا يوجد اليوم ما بين 500 و600 مليون مستخدم إنترنت في الصين. وعلى رغم الرقابة والضغوط فقد نما هناك مجتمع مدني لا تنقصه الحيوية، ويأبى الإذعان لقيود الزمن الغابر. وليس هذا فحسب فقد صار النظام نفسه سلطوياً، ولم يعد نظاماً شمولياً. وثمة فرق سياسي بين النوعين. وقد تكشّفت التنمية الاقتصادية عن استقلال ذاتي للأفراد الذين لم يعودوا فقط مستهلكين، وإنما صاروا مواطنين في المقام الأول، مع كل ما تستصحبه هذه الكلمة من معنى في دلالتها السياسية والحقوقية. وقد بات الصينيون يعبرون عن آرائهم بصراحة، وليس في مقدور السلطات تجاهل رسالتهم. وينبغي أن تقدم عملية استعادة هونج كونج نموذجاً لكيفية إعادة توحيد الصين القارية مع تايوان، وهو هدف سياسي أكبر وذو أهمية استثنائية بالنسبة لبكين. وكان الوطنيون بعدما هزمهم «ماو» في عام 1949 قد وجدوا ملاذاً في تلك الجزيرة الصغيرة التي لجأوا إليها، مدعومين من قبل الأميركيين. وقد تمكنوا من خلق اقتصاد سوق بالغ القوة والحيوية، والتعويض لفترة من الزمن ببراعتهم الاقتصادية عن نقصهم الديموغرافي الكبير، مقارنة مع البلد الأم. ومنذ أخذت الصين طريق صعودها بزخم قوي لم تعد موازين العلاقات على ما كانت عليه في السابق، وتغير الموقف إلى حد بعيد لصالح بكين. وما زال هدف الصين حتى الآن هو تحقيق الوحدة من جديد. وينبغي أن تكون استعادة هونج كونج مع رفع شعار «بلد واحد، ونظامان» نموذجاً، في هذا المسعى. ولكن يلزم القول أيضاً إن استعادة تايوان تعتبر هدفاً أهم بكثير من هونج كونج بالنسبة لقادة بكين. ولذا فإن عليهم في إدارتهم لملف هونج كونج أن يضعوا في اعتبارهم تداعياته على حالة تايوان. وهذا يعني خفضاً إضافياً آخر ضرورياً لأي تعامل بمنطق القوة أو القمع. ومفهومٌ أن القمع الذي جرى التعامل به مع أحداث «تيانانمين» سيكون من العسير اتباعه اليوم. من ناحية، لأن التحدي الماثل ليس أيضاً على الشاكلة نفسها، ففي عام 1989 كان الحزب الشيوعي يعتقد أن النظام هو المهدد في وجوده، من الأساس. أما اليوم في عام 2014 فالأمر أخف بكثير، فالحزب يواجه تحدياً بسيطاً في حدود سلطته لا غير، لكي يترك للسكان هامشاً أكبر من القرار الذاتي في تصريف شؤونهم. ومن ناحية أخرى فالزمن اليوم غير ذلك الزمن أيضاً فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر طيلة الـ25 سنة الماضية. ولو وقع قمع مماثل الآن فلن تترتب عليه فقط توابع وردود فعل مؤثرة في الصين نفسها، بل ستكون له تداعيات سلبية غير مرغوبة تلقي بظلالها على مجمل علاقات الصين مع العالم أجمع. ولا حاجة للتذكير بأن الصين لا يمكن أن تكون لاعباً عولمياً كبيراً ومؤثراً تبقى في الوقت نفسه في معزل عن استحقاقات العولمة. ومهما تكن المصالح التجارية، فسيكون على كثير من البلدان -وليس الغربيين فقط- أن تقلص من مستوى علاقاتها مع الصين في حال وقوع ممارسات قمع شامل. والثمن الذي سيتعين دفعه في هذه الحالة سيكون ثقيلاً بما لا يقاس إلى واقعة 1989. والصين المندمجة إلى أبعد حد في النظام الدولي ستكون أكثر حساسية لما يعنيه ذلك. والحاصل أن النظام الصيني سيسعى لحفظ ماء وجهه، بعدم إعطاء انطباع بأنه يسمح بشكل كامل للاحتجاجات ويترك لها الحبل على الغارب، ولكن سيكون عليه أيضاً تخفيف القبضة، وإرخاء المرساة، وتقديم تنازلات ملموسة، في النهاية.