تحولت المنطقة إلى رقعة شطرنج تلعب فيها أطراف إقليمية ودولية لعبة مصالح، وتحولت الحرب ضد تنظيم «داعش» خاصة في المناطق الكردية السورية إلى ورقة تجاذب وضغط متبادل بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني الذي سارع لتفجير التظاهرات في مدن تركية، حيث شهد عدد من المدن التركية مظاهرات واشتباكات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين، بعد استيلاء تنظيم «داعش» على أجزاء من مدينة عين العرب «كوباني» السورية يوم الأربعاء الماضي. وكان حزب العمال الكردستاني قد دعا، الاثنين الماضي، أكراد تركيا إلى «التعبئة» لمحاربة تنظيم «داعش» الذي يحاصر مدينة «كوباني» آخر معاقل الأكراد في سوريا. وحاول آلاف الأكراد الأتراك العبور إلى سوريا لمساندة الأكراد السوريين في حربهم ضد تنظيم «داعش» في محاولته السيطرة على المدينة. ويعتبر إقليم «كوباني» هو الأصغر بين ثلاثة أقاليم كردية تتمتع بالحكم الذاتي أسسها العام الماضي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا. وسقوط كوباني سيعطي لتنظيم «داعش» سيطرة وتحكماً على شريط حدودي طويل مع تركيا ويعززه من موقعه الجغرافي على الحدود التركية، ولكن لأنقرة حسابات دقيقية لاستقراء الوضع في سوريا والعراق. وتتعرض حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاتهامات مستمرة بأنها لم تظهر إلا دعماً فاتراً للحرب ضد «داعش» فعلى رغم مصادقة البرلمان التركي بأغلبية كبيرة وتفويضه الحكومة بالتدخل في سوريا والسماح لقوات أجنبية باستخدام القواعد العسكرية على الأراضي التركية في الحرب على إرهاب «داعش»، إلا أن محاربة التنظيم بالنسبة لتركيا ليست ذات أولوية، فالحكومة التركية لازالت تمتنع عن أي تدخل عسكري ضد التنظيم الإرهابي الذي بات يسيطر على أجزاء من مدينة «كوباني»، إذ تطرح تركيا على الدوام مشروع المنطقة العازلة شمال سوريا الذي ترفضه الولايات المتحدة وعدد من الأطراف الدولية، وكذلك يرفضه الأكراد، مما يشكل إحدى القضايا الشائكة بين تركيا ودول التحالف الدولي، وكذلك إحدى أخطر القضايا التي تواجهها الحكومة التركية مع الأكراد. ولأنقرة أولويات مختلفة عن الولايات المتحدة وعن الدول الأوروبية، فالقضية الكردية تأتي في المرتبة الأولى على رغم استمرار مفاوضات المصالحة الوطنية في تركيا الجارية منذ عامين بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني. ولدى أنقرة مخاوف من أن الحرب الجوية على تنظيم «داعش» تتطلب وجود قوات برية تحارب التنظيم على أرض الواقع، مما يعني تدفق الأسلحة من دول التحالف الدولي للمقاتلين الأكراد، مما يشعل احتمال انتقال تلك الأسلحة إلى أيدي مقاتلي حزب العمال الكردستاني. وكذلك انتقل القلق التركي المتزايد من الحكم الذاتي لأكراد العراق إلى قلق من تكرار النموذج العراقي في سوريا. ثم يأتي في المرتبة الثانية سقوط نظام بشار الأسد، ومن ثم محاربة تنظيم «داعش». ويشير ارتفاع حدة المظاهرات التي تشهدها المدن التركية إلى أن أكراد تركيا يرون في سقوط «كوباني» في أيدي «داعش» نهاية محادثات السلام مع أنقرة، فقد طالب عبدالله أوجلان تركيا بالتدخل ووقف الدعم اللوجستي لتنظيم «داعش»، فالمقاتلون الأجانب ينضمون للتنظيم ويلتحقون بالقتال عن طريق الأراضي التركية، كما أن مقاتلي «داعش» يعالجون في المستشفيات التركية! صحيح أن تحاول السياسة التركية ضبط التفاعلات خدمة لمصالحها ولكن اللعب بورقة «داعش» في الملفات التركية الداخلية مغامرة غير محسوبة العواقب لن تقدم عليها تركيا وسيتجنبها حزب العمال الكردستاني، ومن المؤكد أن دهاء أردوغان السياسي سيجعله يساوم العالم للانخراط في الحرب ضد «داعش» في مقابل توفير كافة الضمانات في المسألة الكردية حتى لا يتكرر السيناريو العراقي في سوريا بنشوء مناطق حكم ذاتي للأكراد ما من شأنه تغيير قواعد اللعبة السياسية في المنطقة. وكذلك فإن ورقة الحرب ضد «داعش» ستمكن تركيا من التفاوض على عضوية الاتحاد الأوروبي، وفي ذات الوقت التأثير في مستقبل سوريا السياسي بعد الإطاحة ببشار، وحتى الآن لاتزال خيوط اللعبة في يد تركيا وستحدد شروطها وقد تحاول فرضها على الجميع.