في مدينة مراكش المغربية حيث شاركت هذا الأسبوع في الندوة المهمة التي نظمها «مركز أفكار»، وهو مؤسسة شبابية ناشئة بالتعاون مع مؤسسة «هانس سايدل» الألمانية حول آفاق التحول الديمقراطي في مرحلة ما بعد «الربيع العربي». ما لاحظته من الحوار الكثيف مع نخبة من الشباب المثقف الواعد هو الحيرة الواسعة والقلق البالغ من مآلات الوضع العربي بعد مرحلة قصيرة ساد فيها الأمل بآثار الديناميكية التغييرية التي عرفها العالم العربي، إلى حد رجوع التساؤلات القديمة حول أهلية البلدان العربية اجتماعياً وثقافياً لنمط الديمقراطية التعددية. كنت في كتابي «الثورات العربية: المسار والمصير» الصادر في نهاية سنة 2011 قد حذرت من مصاعب التحول الديمقراطي ونبهت إلى ضرورة الاعتناء بهندسة البناء السياسي بدل الاكتفاء بتنظيم الانتخابات الحرة الشفافة، التي لا يمكن بذاتها أن تحل الأزمات السياسية المعقدة التي تعاني منها بلدان «الربيع العربي». ولقد أثبتت الأحداث الموالية صواب ودقة هذه الملاحظات، بيد أن الحالة الراهنة، ولّدت حقائق جديدة، من أبرزها تراجع المطلب الديمقراطي في مقابل مواجهة الإرهاب ومخاطر انهيار الكيانات الوطنية وتحللها. ما أردت أن أبينه في الندوة، هو أن الخيار المطروح ليس بين استبدادية إدماجية (على غرار نموذج صدام حسين، أو القذافي)، وديمقراطية ضعيفة وفوضوية، فلا شك أن الديكتاتوريات هي التي تضعف النسيج الأهلي على الرغم من حالة النظام القسري المفروض بالخوف والقوة، كما أن الديمقراطيات الحقيقية، هي التي تدعم اللحمة الاجتماعية، وتستند إلى توافق وطني صلب وثابت. المأزق العربي الراهن عائد في أحد أسبابه الرئيسية إلى تصور العلاقة بين مطلبي الحرية والمواطنة فيما وراء الأدبيات الرائجة حول الممارسة الديمقراطية، التي تختزل عادة في آلياتها الإجرائية ونماذجها القانونية. ما يتعين التأكيد عليه هنا، أن سؤال الحرية أوسع من طبيعة النظام الديمقراطي، الذي لئن كان يتأسس معيارياً وقيمياً على مفهوم الإرادة الحرة والتعددية المفتوحة، إلا أن النظم والآليات هي في نهاية المطاف صيغ مؤسسية للتعبير عن هذا المثال أو الفكرة الموجهة، وليست تجسيداً مطلقاً أو نهائياً لها. ولا نحتاج إلى التذكير بأشكال النقد الكثيرة لآليات الانتخاب والتسيير التي اعتمدتها الأنظمة الديمقراطية سواء لدى المفكرين الليبراليين المدافعين عن حرية الفرد أو المفكرين "الجمهوريين" المدافعين عن الإرادة المشتركة والمجال العمومي (من سبينوزا وروسو إلى هابرماس وتوني نجري). ما يجدر التنبيه إليه هو أن الآليات الانتخابية بقدر ما هي وسيلة لتنظيم التعددية السياسية والتعبير عنها، هي أيضاً آلية من آليات تشريع الهيمنة، وفي غياب ضوابط تدفع للحرية وتحمي التنوع والتعددية قد تغدو الوسيلة الأكثر فعالية لتجذير الأحادية و«صنع التواطؤ» (على لغة تشومسكي). ومن أهم ضوابط تحصين الحرية طبيعة النسيج الأهلي الذي يتوقف عليه معيار المشاركة التي هي المضمون الحقيقي للديمقراطية الحرة، ولا مشاركة من دون لحمة أهلية متماسكة ومستقرة. لا بد إذن من الجمع بين نموذجي الحرية: «حرية الأقدمين»، التي بلورتها الديمقراطية اليونانية القائمة على فكرة المواطنة، أي المشاركة الفعالة داخل المجموعة، و«حرية المحدثين»، التي كرستها الديمقراطيات الحديثة بتمديدها مثال الحرية الفردية من الميدان الاقتصادي إلى الحقل السياسي، بيد أن هذا الجمع من طبيعته أن يكون إشكالياً وقلقاً في الديمقراطيات العريقة، فكيف بالتجارب الناشئة الوليدة؟ وإذا كان الفكر الليبرالي الحديث في الغرب بدأ في السنوات الأخيرة إعادة طرح منظور الشرعية الانتخابية بتوسيع الأفق الديمقراطي وحل أزماته المتولدة عن ضمور المجال العمومي وانحسار دوائر المواطنة الإدماجية، فإن الإشكال يطرح بحدة مضاعفة في السياق العربي الذي يعيش تحولين خطيرين: الانزياح المتزايد بين المثال التحرري الذاتي ومطلب المشاركة السياسية، والانزياح بين مقتضيات الهوية السياسية للمواطنة القائمة على المساواة غير المتعينة والهوية المجموعاتية الضيقة المستندة للعصبيات الطائفية والقبلية التي هي النقيض الطبيعي للمواطنة والعائق الجوهري دون مبدأ المشاركة الديمقراطية. ما نريد أن نخلص إليه هو أن الموضوع الأهم الذي يجب أن يشغلنا فكرياً وسياسياً في المدى المنظور أعم من فكرة الديمقراطية، وهو مفهوم «العيش المشترك»، الذي نادراً ما يشغل اهتمام الوسط الفكري العربي، مع العلم أن الديمقراطية نفسها ليست سوى وسيلة فاعلة لضبط العيش المشترك وتوطيده. ما تعانيه مجتمعاتنا اليوم التي يكاد يعم عليها التوتر ويخيم عليها شبح التأزم والاحتقان، هو القصور الفادح في تجارب ومقاربات وسياسات العيش المشترك، وما نعنيه بمقولة بالعيش المشترك هو مجالات ودوائر ومؤسسات الاعتراف والتعايش والحوار والتعاون والتعاضد، التي تكرس تماسك وصلابة النسيج المجتمعي، فهي إذن ميدان الفعل السياسي في مفارقته البنيوية (المفارقة السياسية كما عبر عنها بول ريكور)، أي الحاجة إلى وساطة المؤسسة الإدماجية التي هي دوماً وساطة «غير مكتملة»، ولا مثالية لكنها ضرورية لا غنى عنها، ومن دونها يظل مفهوم الحرية تصوراً سلبياً من دون مضمون، في الوقت الذي تظل هذه المؤسسات عرضة للتجاوزات والانحراف مهما كانت طبيعة خلفياتها الأخلاقية والمعيارية. ومن هنا يمكن القول إن ديناميكية التحول الديمقراطي المتعثرة في بلدان «الربيع العربي» تقتضي في إصلاحها تعميق النقاش العمومي حول محددات وضوابط وضمانات العيش المشترك في بلدان تعيش أسوأ مشاهد التحلل والتفكك، ومن دون سد هذه الثغرة تصبح اللحظات الانتخابية بؤرة تأجيج الأزمات السياسية القائمة بدلاً من أن تكون الإطار الناجع لتطبيع الوضع السياسي وتثبيته والمحطة النهائية في الصراع السلمي على السلطة.