في مقالنا الماضي، ركزنا على فكرة جوهرية طرحها الأستاذ «محمد حسنين هيكل» في حوار تليفزيوني له مؤخراً مقتضاها ضرورة القيام بثورة ثقافية مفرداتها الأساسية هي تقديم صحيح الدين، وصحيح التاريخ، وصحيح العلم للجماهير العريضة، وفق اجتهادات جديدة لرفع الوعي الثقافي للناس حتى يعيشوا عصرهم. وقد أشرت في عجالة إلى أن تجديد الخطاب الديني تجابهه مشكلات نظرية وعملية شتى. وحين فكرت اليوم في المناقشة التفصيلية لهذه المشكلات، تذكرت أنني تعرضت مباشرة لهذه المشكلة الجوهرية في نص قديم يتمثل في مقالة نشرتها في جريدة «الأهرام يوم 16 أغسطس 1993» وضمنته بعد ذلك كتابي «الكونية والأصولية وما بعد الحداثة» (الجزء الأول نقد العقل التقليدي، المكتبة الأكاديمية 1996، وكان عنوان المقال «الاجتهاد الفقهي والتغير الاجتماعي». وحين طالعت هذا المقال القديم، فوجئت بأن المشكلات الدينية المطروحة اليوم للنقاش العام تتشابه بصورة تكاد تكون تامة مع المشكلات القديمة! وتبين لي أن المشكلة التي شغلت النقاش العام في التسعينيات هي مشكلة- «الردة»- واختلفت الآراء حول العقوبات التي ينبغي أن توقع على المرتد. ومن الغريب حقاً أن يكون النقاش العام هذه الأيام حول «الملحدين» ونوع العقوبات التي ينبغي أن توقع عليهم. في كلتا الحالتين دار النقاش ويدور حول مشكلات مزيفة وليست مشكلات حقيقية! فلا الردة كانت تمثل ظاهرة في التسعينيات، ولا الإلحاد يمثل ظاهرة هذه الأيام. ولذلك وردت في مقالي القديم هذه العبارة «من هنا يحق لنا أن نتساءل: هل هذه حقاً صحوة فقهية أم علامة مؤكدة على تخلفنا الثقافي؟ وهل لو أصبحت لغة الخطاب السائدة تتردد في ثناياها ألفاظ الملحد والكافر والمرتد والمنافق وجرائم الردة وعقوبات الحرابة، نكون فعلاً على أبواب صحوة فقهية كبرى أم نكون قد وقعنا في محظور التجاهل المتعمد للمشكلات الحقيقية التي تواجهنا، وانزلقنا إلى التصدي بسيوف من خشب لمشكلات مزيفة لا وجود لها على أرض الواقع؟». كان عنوان مقالتي القديمة «الاجتهاد الفقهي والتغير الاجتماعي»، وقد أثرت فيها كل المشكلات التي تتعلق بتجديد الخطاب الديني. وكانت الفكرة المحورية، كما هي اليوم، ضرورة ربط التجديد الديني بظواهر التغير الاجتماعي المتعددة. ومن المتفق عليه أن المجتمع بطلائعه الثقافية ونخبته السياسية ينبغي عليه ألا ينشغل بالتصدي لمشكلات مزيفة وذلك على حساب المشكلات الحقيقية التي يجابهها، ومن هنا يصبح السؤال: هل الردة، في ضوء هذا المعيار، تعد مشكلة اجتماعية؟ وهل نحن نعاني حقاً مشكلة ترك المسلمين دينهم، أم أننا إزاء ظاهرة أخرى معاكسة تماماً، وهي شيوع الأفكار الدينية المتطرفة التي أسست لنشأة عقل إرهابي يمارس تبريره للعدوان على حياة البشر، كما تفعل حركة «داعش» هذه الأيام؟ ويمكن القول، إن أصحاب العقول التقليدية يمارسون الإرهاب الفكري ضد من ينادون بتجديد الخطاب الديني، وقد أفتى بعض هؤلاء بأنه يتبنى التحديد المسبق لمناطق فكرية آمنة لا ينبغي على أي باحث أو مفكر أن يقترب منها! والواقع أننا في حاجة حقيقية إلى صحوة فقهية تحاول التركيز على قيم الإسلام الرفيعة في الحرية والمساواة والعدالة والتكافل الاجتماعي والتيسير على البشر، وأن نجدد الفقه الإسلامي الذي تجمد قروناً طويلة وتخلف عن مواكبة العصر. ونستطيع أن نؤكد أن الجمود الفقهي الإسلامي هو أحد أسباب التخلف الثقافي التي تعانيه الشعوب العربية والإسلامية. لذلك لم يكن غريباً في بدايات النهضة العربية الأولى، أن يترافق تحديث المجتمع مع محاولات تجديد الفقه. ولعل أبرز دليل على ذلك الجهود الرائدة التي بذلها شيوخ عظام على رأسهم الشيخ محمد عبده، الذي أدرك بنافذ بصيرته أن على الفقه الإسلامي أن يتجدد حتى لا يبدو متخلفاً عن التقدم العلمي المعاصر. من هنا، يحق القول إن الشعوب الإسلامية في حاجة ماسة إلى حركة إحياء فكري إسلامي متكاملة. وهذه الحركة ينبغي أن تركز على التراث الفقهي الإسلامي في جوانبه العقلانية المضيئة، التي تركز على إعمال العقل بغير حدود، وتولي اهتمامها لفقه المصالح المرسلة، وتضع الحلول المناسبة لكل المشكلات التي يفرضها عصرنا الذي يتسم بتعمق الثورة العلمية والتكنولوجية. ويمكن القول إن هذه الحركة لن تبدأ من فراغ، فلدينا جهود ممتازة في هذا المجال، وإنْ كانت متفرقة. والواقع أن لدينا تراثاً قانونياً نستطيع أن نبني عليه الصحوة الفقهية المنشودة، بشرط أن يمتنع المزايدون عن دخول هذا المضمار. هذا ميدان يشترط شروطاً خاصة في من يدخله، ويحتاج لمن يوغل فيه أن يعد نفسه إعداداً طويلاً، قبل التجاسر بإبداء الرأي في المشكلات الخلافية، ولا نقول الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد – في معناه الدقيق- هو أرفع مرتبة يصل إليها الفقيه. وهذه مرتبة لا تتاح إلا للقلة، التي وهبها الله الموهبة والقدرة على الإبداع، والشجاعة الأدبية التي تسمح له بإعلان رأيه، والدفاع عنه في معترك النقاش العلمي. ووفق ما تمليه آداب الحوار. نحن لسنا في حاجة إلى صحوة فقهية تهتم بإبداء الرأي في مسائل فرعية لا ينبغي أن تشغل العقل الإسلامي المعاصر، ومن هنا فحين يهلل أحد الكتاب الإسلاميين لكتاب أنتجه فقيه معروف، ذكر فيه أن صوت المرأة ليس عورة، فإن ذلك لا يمكن اعتباره من الاجتهادات البارزة التي تحتاج إلى تحية خاصة. فقد استقر وضع المرأة في المجتمع، بعد تعليمها، وممارستها للمهن المتعددة فيه، طبيبة وأستاذة في الجامعة ومديرة، ووكيلة للنيابة الإدارية، ومدرسة، وممرضة، وصحفية، وكاتبة ومحامية، أبعد هذا كله تزهق تفكيرنا بحثاً حول ما إذا كان صوتها عورة أم لا؟ ألا يدل ذلك على تجاهل متعمد لحركة الواقع الاجتماعي المتعددة التي فتحت آفاقاً لا حدود لها أمام المرأة في مجتمعاتنا لكي تسهم في التنمية بكل ما تملكه من قدرة على الإبداع، في كل المجالات. صحوة فقهية نعم، ولكن في الاتجاه الصحيح، ووفق المنهج العقلي لا المنهج النقلي، مع تركيز على متغيرات العصر، وحرص على التكيف مع جوانب التغير الاجتماعي الإيجابية في المجتمع، التي تسمح بازدهار الشخصية الإنسانية. ينبغي أن يكون الفقه في خدمة القيم العليا السامية للإسلام، التي ركزت على الحرية الإنسانية والمساواة والعدالة الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان. لو لم نسلك هذا المسلك فمعنى ذلك أن نترك الموتى يتحكمون في الأحياء!