لا يزال اسم تنظيم «داعش» يسبب إرباكاً في غرف الأخبار في العديد من المؤسسات الإعلامية العربية، فمنها ما اعتمد «الدولة الإسلامية»، باعتبار أنها التسمية التي خلعها التنظيم على نفسه، ومنها ما لا يزال يستخدم «الدولة الإسلامية للعراق والشام» ليبرّر بعدئذ إيراد «داعش» كإيجاز لها. هذه المشكلة حُلّت بشيء من البساطة في الإعلام الغربي الذي سرعان ما اختصر الاسم بالحروف الأربعة الأولى (آي.اس.آي.اس.– اسلاميك ستايت اوف ايراك أند شام)، والبعض فضّل «الـ» مكان «اس» الأخيرة (ليفانت - المشرق، بدلاً من «الشام») من دون أن يشرح أسبابه، أو ربما استخرج مصطلحاً تاريخياً، علماً بأن خياراً كهذا لا يخلو من خبث سياسي، كونه يوسّع «الدولة» المزعومة الى أبعد مما طمح إليه «داعش» كأن يضم أيضاً لبنان وفلسطين، وبات شائعاً أخيراً استخدام الـ «آي.اس.» في إشارة إلى «الدولة الإسلامية»، لكن «هذه ليست دولة ولا إسلامية»، وفقاً لعبارة ترددت كثيراً في تصريحات رؤساء وسياسيين غربيين أرادوا لفت الرأي العام إلى عدم المزج بين ديانة هي الإسلام، وبين تنظيم إرهابي. غير أن المزج حصل فعلاً، فالرأي العام لا وقت لديه للبحث والتمحيص، بل يختار أقصر الطرق ليفهم من هم هؤلاء الذين يذبحون الرهائن أمام الكاميرات، ومن أين جاؤوا بهذا التقليد، ثم أن هناك في الإعلام الغربي من يتبرع بتفسيرات سطحية ومبسّطة، وأحياناً متعمدّة الإساءة، لتظهير الإسلام والمسلمين في صورة سلبية وشنيعة. في أحد النقاشات سأل مسؤول إعلامي غربي: ماذا تريدونا أن نسمّيهم؟ وهل هذه مهمتنا أصلاً؟ تابع مفصّلاً: نعم نعرف أنهم ليسوا دولة ولا يمثلون الإسلام، مثلما أن تسمية «حزب الله» اللبناني - الإيراني، أو جماعة «أنصار الله» اليمنية - الحوثية - الإيرانية، أو حركة «جند الله» البلوشية - السنّية - الإيرانية، وكذلك تسمية «جيش الرب» الأوغندي، أو «جيش الرب للمقاومة» في أفريقيا الوسطى، لا تعني أن الله هو من أجاز لهذا الحزب، أو ذلك الجيش أو تلك الجماعة استخدام اسمه... واستخلص أن تجهيل الاسم، أو التلاعب به «ليسا من شأن الإعلام، فضلاً عن أنهما لا يفيدان بشيء»... المصادفة وحدها هي التي رتّبت الحروف الأولى، وجعلت إيجاز الاسم العربي متاحاً بـ «داعش»، فصار أكثر شهرة من الأصل. وككل اسم لا يلبث أن يتخّذ من المسمّى جسماً ومفهومه، تماماً مثل «الغطش» والبغش والإرزيز والأفكل التي تصوّر في اللامية الشنفرية حالاً إنسانية صعبة أقرب إلى حال النازحين الهاربين من ظلم الطغاة والإرهابيين، بل إن اسم «داعش» أغرى متداوليه باستخدام كلمة تبطن معنى الوحشية، وتحتمل التصرّف بها «استدعاشاً» و«دعشنةً» و«تدعيشاً»، حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي استلهمه للدلالة إلى مَن هو أكثر إرهاباً وبشاعةً منه، فالتقط مفاوض فلسطيني الفرصة ليقول إن بنيامين نتنياهو يدير إسرائيل كما يدير «البغدادي» ما يسمّيه «دولته». كانت هذه من المرّات النادرة التي يسمح فيها مسؤول إسرائيلي بالحديث عن الإسلام، متناسياً نظرة العالم إليه وإلى الدماء التي سفكها، والدمار الذي ارتكبه في غزّة، متناسياً أيضاً أن بعض مستوطنيه أقدموا على إحراق فتى فلسطيني وهو حي، كانت تلك أيضاً جرائم «داعشية» جداً. في أي حال، تبقى التسمية مهمّة، فالإصرار على «داعش» إصرار على هامشية هذا التنظيم، في حين أن اسم «الدولة الإسلامية» يرنّ كما لو أنه يعني المسلمين جميعاً ورغماً عنهم، وكلما ذُكر يبدو كأنه يكسب «اعترافاً» لا يستحقه. يكفي أن خوف الناس في مناطقه جعلهم يختصرون اسمه بكلمة واحدة «الدولة»، والأخطر أنه أصبح بالنسبة اليهم بمثابة «دولة» تملأ الفراغ الذي أخلته «الدولة» في العراق وسوريا، ومن شأن ذلك أن يشوّه المفاهيم خصوصاً إذا طال مكوثه، كما يبشّر أقطاب «التحالف» الدولي، فـ«طالبان» لا تزال هي «الدولة» عند القاطنين تحت سيطرتها، ورغم أن «التحالف» الدولي أسقط نظامها في أفغانستان، وأمضى ثلاثة عشر عاماً يحاربها، إلا أن انسحابه بنهاية هذه السنة يشعل منذ شهور التوقّعات بعودتها. ثمة اسم آخر يترادف حالياً مع «داعش»، وهو «الأجانب»، ومن حسن الحظ أنه لم يُطلَق عليه اسم «المهاجرين» (!) طالما أنهم تركوا ذويهم وحياتهم في بلدان غربية ليلتحقوا بـ «البغدادي»، وقبل ثلاثة أسابيع خصص مجلس الأمن الدولي جلسة على مستوى رئاسي للبحث في قضية «المقاتلين الأجانب» في صفوف «داعش»، فهؤلاء يشكلون المساهمة الغربية، المتعمّدة أو غير المتعمّدة، في تصدير الإرهاب. إنهم في غالبيتهم من العرب المسلمين، الذين ولدوا لعائلات مهاجرة، أو نموا في بيئة غربية يُفترَض أن يكونوا تجرّعوا فيها ثقافةً صلبة في «سلميّتها» وبعيدة تماماً عن الوحشية «الداعشية». اللافت أن العرب والغربيين يسمونهم حالياً «الأجانب»، فلا أحد يريد الاعتراف بانتمائهم إليه أو بمسؤوليةٍ ما ولو غير مباشرة عن صيرورتهم المنفّرة. وإذا بـ «داعش» يعني أيضاً «اللا مكان» و«اللا انتماء»، رغم ما يبذله من جهد للتوسع الجغرافي والترسّخ بين الناس وفي الأرض. ولأنه كذلك، فلا سبيل معه سوى محاصرته في بؤرته، وفرض انكفائه والقضاء عليه، وكل تأخير في تحقيق هذا الهدف هو تعجيل باستشراء وبائه، فلا يعود مجدياً حتى مجرّد التفكير في ضربه. عبدالوهاب بدرخان محلل سياسي- لندن