كان بنيامين نتنياهو خلال الأسبوع الجاري على موعد جديد مع حيله وألاعيبه وتبجحاته القديمة المتجددة. ويوم الاثنين، ألقى خطاباً نصف فارغ المحتوى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ثم أتى إلى واشنطن لإجراء اللقاء الذي تم فيما بعد مع أوباما ووصف بأنه «بارد كالثلج». وفي خطاب الأمم المتحدة، بدا نتنياهو كلاسيكياً، وكرر تحذيراته من اقتراب يوم الحساب الممتزج برائحة اللحم الأحمر. وما لبث أن أصبح حديثه تائهاً لا وجهة له وبما يوحي بقوة بأنه مخصص للاستهلاك الإعلامي ليس إلا. ولعل أكثر ما أثار الانتباه هو «العرض الفخم» الذي قدمه للدول العربية داعياً إياها لمشاركة إسرائيل في إقامة «علاقة شراكة فعّالة يمكنها أن تؤسس لأمن وسلام حقيقيين، ولشرق أوسط جديد ينعم بالرخاء». وبدا لي وكأنه يطرح فكرة مبطنة مفادها: أننا لا نستطيع أن نصنع السلام مع الفلسطينيين، ولكن لو شئتِ يا بلدان العرب أن تصنعي السلام معنا، فإننا سنعمل بطريقة الأيدي المتشابكة لإيجاد الحلول لكل مشاكلنا. وعلى أن الفكرة الإسرائيلية بصنع السلام مع العرب قبل صنعه مع الفلسطينيين أولاً، قديمة فاتها الزمن، وهي لا تعدو أن تكون واحدة من ثمرات الخيال الإسرائيلي الجامح المريض. وبناء على ذلك، فلقد عبر نتنياهو عن رغبته في تحويل مبادرة السلام العربية إلى مجرد وسيلة لتحقيق حلم الاعتراف العربي الجماعي بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها من دون دفع أي ثمن مقابل ذلك. وبالنسبة لإنسان غير معبّأ سلفاً ضد هذه الترهات، أو ذلك الذي يتصف بسذاجة تصديق كل ما يسمع، يمكن أن تتضمن الفكرة ما يستحق التوقف عنده. حتى أنها جعلت نتنياهو يبدو وكأنه يسلك «الطريق السريع» في محاربته للتطرف ونشر السلام. ثم إن الفكرة بحد ذاتها تفتقر للقدرة على الإقلاع من أرضها طالما أن من المؤكد عدم قبول أي زعيم عربي بها، فضلاً عن أنها لن تلقَ غير الرفض القاطع من الرأي العام العربي. فما من عربي واحد في هذه المرحلة يمكنه أن يقبل بالسير فوق أجساد شهداء غزة أو القبول بالتنكر لحقوق عرب القدس. وهناك مشكلة أخرى شديدة الأهمية في هذا الخطاب، وهي أن نتنياهو لم يكن جاداً فيما قاله، بل كان حديثه من نوع «لعبة المعلّم» التي لا تهدف لأكثر من الفوز بـ«المانشيتات» العريضة للصحافة العالمية، خاصة أنه ضالع في التعامل معها. وكما هي حاله في أغلب الأحيان، عندما يشعر نتنياهو أنه انحشر في الزاوية الضيّقة، فإنه يلعب لعبته بتغيير موضوع الحديث. وكان مما يثير الانزعاج أن صحيفة «نيويورك تايمز» بدلاً من فضح هذه الألاعيب البهلوانية، التقطت الطعم وراحت تنشر تقريرها حول مزاعم نتنياهو بالخط العريض، وهي تشير إلى محادثاته مع أوباما. وكان العنوان الرئيسي لتقريرها: (نتنياهو يقول إن التحالف مع العرب يساعد على تحقيق السلام في الشرق الأوسط). ثم تبدأ الصحيفة بنشر القصة الكاملة بجملة افتتاحية جاء فيها: «رفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من سقف توقعاته المتأرجحة حول السلام عندما عرض فكرة تفيد بأن التحالف مع العرب يمكنه أن يعيد إنعاش محادثات السلام مع الفلسطينيين، إلا أن أوباما ردّ على ذلك بتكرار قوله من أن الاستيطان اليهودي هو المشكلة الحقيقية». وقالت الصحيفة أيضاً: «وهذه الخطة التي طرحها نتنياهو في خطاب الإثنين في الأمم المتحدة، يمكن أن تؤسس لإعادة المفاوضات مع الفلسطينيين، والتي تجمدت في أبريل بسبب الاستيطان اليهودي وبعض الخلافات الأخرى. ولقد جعل هذا الخطاب الزعيم الإسرائيلي أكثر قوة في المنطقة، وربما في العالم أيضاً». وهكذا يتضح بأن العنوان الرئيسي وطريقة طرح الموضوع في الصحيفة كان مضللاً ومثيراً للإزعاج. وهو يعكس صورة غير واقعية لنتنياهو كرجل عثر فجأة على إمكانية جديدة لتغيير العالم، فيما بدا أوباما وكأنه رجل فضل التشبّث بالماضي عندما لم يجد شيئاً يقدمه لنتنياهو في المقابل غير التذمّر والشكوى الذين اعتاد عليهما. كما أن التعمق والغوص أكثر وأكثر في صلب الموضوع يجعل من الواضح أنه لا يعدو أن يكون أكثر من تعبير عن ضياع الاتجاهات في أحلام نتنياهو. وقبل اجتماع البيت الأبيض بقليل، صادقت الحكومة الإسرائيلية على مشروع بناء ألفي وحدة استيطانية جديدة شرق القدس وقامت مجموعة من المستوطنين المتشددين وبحماية الجيش الإسرائيلي باحتلال عدد من البيوت في حي سلوان العربي شرق القدس. وبعد المجزرة المروّعة التي ارتكبت في حق الأبرياء في غزة، وفي خضمّ عملية التوسع السريعة للمستعمرات التي تؤوي اليهود دون غيرهم، فإن أي حديث حول «تحالف عربي» مع إسرائيل يصبح عديم المعنى. كما أن التبجح بأن إسرائيل أصبحت الآن في موقع أقوى في المنطقة والعالم هو كلام فارغ المحتوى أيضاً. وفيما تواجه إسرائيل التحقيقات المتعلقة بحماقتها عندما قصفت منشآت تابعة للأمم المتحدة في غزة، وصدور قرار من مجلس الأمن يحدد تاريخ الانسحاب الإسرائيلي من المناطق المحتلة، وتصاعد الغضب العالمي من سلوك إسرائيل خلال حرب غزة، وبسبب برنامجها الاستيطاني الذي لا يقف عند حدود، فإن إسرائيل أصبحت في الحقيقة أكثر عزلة على المستويين الإقليمي والدولي من ذي قبل. ونظراً لأن الولايات المتحدة لا زالت تعدّ حليفها القوي، فإن إسرائيل تضعها في موقف خطير أيضاً. وكما هي الحال دائماً، فإن نتنياهو يمكن أن يكون ذكياً، إلا أن الخداع والتضليل لا يمكنه أن يصمد أمام الحقيقة. ويمكن أن يكون نتنياهو قد نجح في لعبة استغباء صحيفة «نيويورك تايمز» عندما دفعها إلى نشر تبجحاته بالقلم العريض، إلا أن الصحيفة استدركت الأمر عندما اختتمت التقرير بملاحظة صادرة عن قسم التحرير جاء فيها: «إن منهج نتنياهو الراهن لا يُقابل إلا بالعداء من كل إنسان». جيمس زغبي رئيس المعهد العربي- الأميركي في واشنطن