من الخرافات الشائعة في الأدبيات العربية الراهنة أن لحظة الإصلاح الديني هي التي مهدت لفكر الأنوار وأن لحظة التنوير هي التي قادت تلقائياً إلى الثورات السياسية الديمقراطية في الغرب، وذلك هو المسلك الذي علينا اتباعه (اعتبر عبدالله العروي أن علينا القيام بالمهام الثلاث بصفة متزامنة). وإذا كنا بينا سابقاً أن الإصلاح البروتستانتي لم يكن له أفق حداثي أو تنويري ولا يمكن أن نعتبره في خطابه ومنظوره العقدي محطة تمهيدية للحداثة والتنوير، فإن حركة النقد الديني الفلسفية لم تكن تمهيداً للأفكار الديمقراطية التعددية التي قامت عليها الثورات السياسية الغربية. وفي هذا السياق يمكن أن نجمل رهانات فلسفات الدين الأوروبية الحديثة في ثلاث إشكالات كبرى هي: مقاربة النص الديني، ومشكل الشر الخلقي، ونقد الميتافيزيقا. وقد برزت الإشكالات الثلاث بعد الثورة الديكارتية في الفلسفة والعلم التي كرست القطيعة مع مذهب اللاهوت الطبيعي الذي شكل لب العقائد الكنسية المقننة، وفرضت إعادة بناء الأدلة والبراهين التقليدية في الأمور الدينية. ظهرت مسألة الكتابات الدينية أي النصوص المقدسة لدى سبينوزا وهوبز في اتجاهين متلازمين: النقد الإبستمولوجي للمضامين في ضوء الثورة العلمية الجديدة وتحديد سلطة التأويل المخولة بتدبير الفهم العمومي لهذه النصوص الموجهة للجمهور بما يتصل بالنظام الجماعي والسلم الداخلي الذي تصونه الدولة. وقد اتفق هوبز وسبينوزا في نقدهما النفساني الطبيعي للتصورات الدينية للطبيعة (وهو النقد الذي وصل مداه في حوارات ديفيد هيوم حول الديانة الطبيعية)، كما اتفقا في نقل سلطة تأويل النص من الكنيسة إلى الدولة من منظور الوظيفة الاجتماعية الضرورية للدين التي هي الانقياد والخضوع والطاعة. أما موضوع الشر الخلقي فهو موضوع نظري ومجتمعي حاد شغل فلاسفة التنوير منذ بلور لايبنتز رسالته في «العدالة الإلهية» التي يفسر فيها الشر من منظور تصوره الطبيعي لتناسب الكون وتناسقه واكتماله (في مقابل مذهب العدالة الإلهية لدى القديس أوغسطين الذي ذهب فيه إلى أن الشر عقاب إلهي على معصية الإنسان). ومع أن هذا الجدل يبدو لاهوتياً ميتافيزيقياً إلا أنه شغل فلاسفة الأنوار من منطلقات مغايرة ترتبط بفاعلية الإنسان وإرادته الحرة، مما تعكسه كتابات فولتير الساخرة من تفاؤلية لايبنتز التي ذهب فيها إلى نمط من محاكمة الدين ستستمر في مسالك أخرى في القرن الموالي لدى فلاسفة «الاستلاب» (فيورباخ وماركس ونتشه). أما حركية نقد الميتافيزيقا التي أصلت لها الثورة الكانطية الكبرى في الفلسفة فهي الصياغة التأليفية للاتجاهين السابقين، بنقل المسألة اللاهوتية من البراهين الطبيعية إلى حقل الأخلاق، وتأسيس الأخلاق على معيار الذاتية المستقلة بدلاً من النصوص المنزلة. وفي المنحى الاول يتم التخلي عن قرون طويلة من اللاهوت الطبيعي في أدلته الوجودية على الصانع (الدليل الأنطولوجي والدليل الغائي) وذلك هو الدرس الأساسي الذي استخلصه كانط من نقدية هيوم، وفي المنحى الثاني إخراج موضوع الشر من متاهات اللاهوت الذي ظل سجيناً بين الاختيار ما بين «إله» قوي لا تدرك حكمة أفعاله و«إله» حكيم مجرد من سلطته المطلقة. وإذا كانت ثورة كانط تحولاً كبيراً في الفلسفة، فهي أيضاً تحول كبير في المباحث اللاهوتية، فلم يكن غرضه تقويض الدين أو إضعافه وإنما تحقيق التسويات المطلوبة بين «الإله العقلي» و«الإله التوراتي» (الإشكال السبينوزي) وبين استقلالية الإنسان في تناهيه وانشداده للمطلق من حيث هو حيوان ميتافيزيقي، وبين أخلاق الواجب وافق الرجاء والأمل الذي هو أفق الدين الذي لا غنى عنه. وغني عن البيان أن كانط الذي هو المؤسس الحقيقي لفلسفة الدين بلور المسالك الكبرى للإشكالية الفلسفية الراهنة حول الدين في اتجاهين رئيسيين: - الجدل حول الصياغة الميتافيزيقية للدين، هل القوالب الميتافيزيقية من صلب النسق الديني وبالتالي ينهار مع انهيارها أم أنها من أشكال اللاهوت التاريخي المتجاوزة ويمكن تجديد الممارسة التأويلية للدين على أنقاضها (الاتجاه الحسي أو الحدسي الذي بلوره شلايرماخر بامتداداته الحالية)؟ - الجدل حول المنزلة العمومية للدين: هل يترتب على بناء المنظومة الأخلاقية على معيار الذاتية الإنسانية الراشدة إلغاء حضور الدين في حقل القيم العمومية وحصره في دائرة الاعتقاد الفردي أم أن طبيعة الكيان الجماعي تحتاج إلى دوافع الدين الخيرية ومضامينه المطلقة التي يمكن ترجمتها في النظم الاجتماعية والمدنية. وإذا كان الخيار الثاني هو مسلك المثالية الألمانية (فيخته وهيغل وشلينغ) في نقدها لتجريدية كانط وتصورها للمطلق المتجسد في الثقافة والتاريخ (الفلسفة كتعبير مفهومي عن المطلق الديني والدولة كتجسيد موضوعي لهذا المطلق)، فإن تيارات واسعة في فلسفات الدين المعاصرة ظلت وفيّة لنمط من كانطية الضمير الذاتي ورمزية الرجاء. وما نريد استخلاصه من هذا العرض السريع لمسار فلسفة الدين في الغرب الحديث هو أمران أساسيان: أولهما: إن فلسفات التنوير لم تكن امتداداً آلياً لحركة الإصلاح الديني، لا من حيث الاهتمامات وطبيعة الخطاب، بل إنها تبلورت في سياق الإشكالات الفلسفية الجديدة التي ولدتها الثورة الديكارتية- الكوبرنيكية من حيث كونها قلبت البنيات التأويلية التي كان يتأسس عليها اللاهوت الطبيعي المسيحي وفرضت إعادة تصور المسألة الدينية. ثانيهما: أن فلسفة الدين الحديثة وإن لم تكن وليدة الإصلاح الديني، إلا أنها تركت أثرها المكين على التقليد اللاهوتي، كما تركت أثرها على نمط تصور وضبط منزلة الدين العمومية، أي ما سيعرف في ما بعد بالمسألة العلمانية التي ترتبط من أوجه أخرى بمسار الثورات السياسية الديمقراطية الحديثة كما سنبين لاحقاً.