كان عام 2011 عاماً أسود على العديد من جمهوريات العالم العربي، حيث جلب الفوضى وتصاعد الأصولية وتخلخل الدولة المدنية الحديثة، وحين كان يرى البعض تلك الأحداث بداية لحلمٍ كبيرٍ وفتحٍ لآمالٍ عراضٍ كانت قلةٌ فطنةٌ ترى أن تلك الأحداث ستكون وبالاً على الأوطان التي تحركت فيها وهو ما حصل بالفعل. كانت الرؤى الدولية مشتتةً تجاه الأحداث وغرقت الدولة الوطنية في فوضى عارمةٍ وتخريبٍ متعمدٍ وهدم ممنهج لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها المقرات الأمنية من مراكز شرطة وغيرها من مؤسسات الدولة التي اشترك في اقتحامها وتخريبها الشباب الثائر مع القوى الأصولية، وقتل العديد من الجنود والعساكر وسقطت هيبة الدولة. كان يحدو المؤيدين الحالمين بتلك الأحداث الرغبة العارمة في اعتبار كل ما يجري في تلك الجمهوريات نموذجاً واحداً يتنقل بين تلك الدول، وهو ما يعبر عن «وهم النموذج الواحد»، بينما الصحيح أنه كان لكل بلدٍ سياقٌ وظروفٌ داخليةٌ متعددةٌ توضح الفروق بين كل بلدٍ وآخر على مستوياتٍ متعددةٍ. كانت الرؤية الدولية الأكثر خطأً هي تلك القادمة من الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية، بحيث كانت الرؤية تقوم على ضلعين أساسيين: الأول أن الأنظمة العربية القائمة آنذاك أصبحت عاجزةً وعبئاً على المنطقة والعالم، والثاني، أن البديل الأفضل هو تمكين ما كانوا يسمونه «الإسلام المعتدل» الذي تمثله جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة «الإخوان المسلمين». وملخص هذه الرؤية أنه لا خلاص لشعوب المنطقة ودولها إلا بتمكين جماعة «الإخوان المسلمين» من حكم تلك الجمهوريات، وأن تمكين الجماعة يعني بالضرورة القضاء على الإرهاب وجماعته المعلنة آنذاك مثل تنظيم «القاعدة» الأم وتنظيمات «القاعدة» الفروع، وقد أثبتت الأحداث وتطورها الخطأ الكامل لتلك الرؤية، ذلك أن جماعات الإرهاب قد عززت وجودها وتوسعت في التجنيد والتدريب والتسلح، وأنه لا توجد فروقٌ بين الإسلام السياسي والإسلام المسلح إلا في الدرجة لا في النوع. بغرض التخلص من تنظيم «القاعدة» خلقت الفوضى في المنطقة والتخاذل الدولي الطويل تنظيماً أشد عنفاً وأكثر توحشاً من «القاعدة»، وهو تنظيم «داعش» في العراق والشام، والذي لم يكن له أن يخلق لو تمّ التدخل سريعاً في العراق وفي سوريا، في العراق للقضاء على حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي التي كانت صارخةً في طائفيتها وفسادها، وهي التي كانت تموّل نظام بشار الأسد في سوريا من عوائد نفط العراق، وتمول الكثير من تحركات إيران في المنطقة من أموال الشعب العراقي. وفي سوريا كذلك، فلو تمّ التدخل سريعاً في دعم حقوق الشعب السوري ورفض وحشية وعنف نظام الأسد الذي وصل لاستخدام الكيماوي ضد شعبه، لما تولّدت حركات الإرهاب من «داعش» إلى النصرة وغيرهما، وقد كان نظام الأسد ضالعاً في خلق تنظيمات الإرهاب في سوريا لتأكيد حجته التي أطلقها منذ بدء الأحداث في مارس 2011 التي تقول: نحن لا نواجه شعباً بل مجموعاتٍ إرهابيةٍ. ثمة نموذجان مختلفان تماماً في المشهد المعاصر لدولتين لحقتهما أوضار الفوضى والأصولية، هما الدولة المصرية والدولة اليمنية واختلف مصيرهما غاية الاختلاف، وإن واجهتا الإرهاب وجماعاته المنظمة كلٌ بحسبه. في مصر قام الشعب المصري والجيش المصري برفض حكم جماعة «الإخوان المسلمين» الأصولية وإسقاطها من سدة الحكم، وقد حظي ذلك الموقف بدعمٍ تاريخيٍ قويٍ وشاملٍ وغير مسبوقٍ من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، وقد مكن هذا الدعم السياسي والاقتصادي مصر من إنجاز غالب خطوات خارطة المستقبل أو الطريق. ويرى المراقب اليوم كيف أن مصر تخطو بثقةٍ خطواتها نحو النجاح والإنجاز، فالمشاريع الكبرى يتم التخطيط لها وتنفيذها بنجاحٍ وحرفيةٍ، وهي تشمل كافة حاجات الدولة والشعب المصري، وأوضح مثالٍ على ذلك هو المشروع التاريخي لفتح قناةٍ موازيةٍ لقناة السويس، والتي ستدخل التاريخ من بوابة المشاريع الكبرى التي تخدم مصالح غالبية دول العالم كمشروع قناة السويس الأولى ومشروع قناة بنما ونحوهما من المشاريع التاريخية. ولم يكن لأي من ذلك أن يتم لولا أن الدولة المصرية قد استعادت هيبتها وقضت على تيارات الفوضى ومؤسساتها وأسقطت حركة «الإخوان» الأصولية وأعلنتها جماعةً إرهابيةً محظورةً، واستطاعت التعامل بنجاحٍ مع كل الإرهاب الذي قامت به الجماعة والجماعات التابعة لها في عملياتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ ناجحةٍ أضعفت تلك التنظيمات وعززت استقرار الدولة. لمّا تزل في مصر جماعة «أنصار بيت المقدس»، التي تنشط في شبه جزيرة سيناء وهي تحت هجماتٍ منظمةٍ من الجيش والشرطة المصرية وقد أصبحوا معزولين أكثر فأكثر، والدولة تحاصرهم وتقتلهم وتتصدى لهم وللإرهاب الذي يحاول النفاذ لمصر من ليبيا، وقد سارت عجلة الدولة للمسير من جديد وإن بقيت جماعة الإخوان المسلمين والجماعات التابعة لها تمثل العدو الأول لاستقرار الدولة هناك. النموذج الآخر هو نموذج الدولة اليمنية، وهي قبل أحداث 2011 لم تكن دولةً بالمعنى الحديث بل كانت شبه دولةٍ وحين عمّتها الفوضى استطاعت المحافظة على نفسها عبر المبادرة الخليجية، ولكنها كانت تشهد صراعاتٍ شديدة التعقيد وكانت تنمو فيها عبر سنواتٍ طوالٍ تنظيمات «الحوثي» المدعومة من إيران، تحت أسماء متعددةٍ في فتراتٍ متطاولةٍ من «الشباب المؤمن» إلى «أنصار الله» وكان لسوء إدارة المرحلة الانتقالية ولاضطراب الولاءات ولضعف الدولة ككل دور كبير في سقوط صنعاء في ليلةٍ ظلماء. سيطر تنظيم «أنصار الله» الحوثي على صنعاء وهو يرسل ميلشياته وعناصره إلى مأرب حيث النفط والكهرباء وللحديدة حيث الميناء البحري، وهو ما يعني سيطرةً شبه تامةٍ على أجزاء مهمةٍ من شمال اليمن، والدولة اليمنية بخلاف المصرية تتجه لأن تصبح دولة فاشلةً. أمران مهمان هنا: الأول أن إيران عاجزة اقتصادياً عن تغطية حاجات دولةٍ بحجم اليمن، وهي مع انخفاض التمويل من عراق المالكي، ومع انخفاض أسعار النفط عالمياً ستكون أكثر عجزاً. الثاني، الاجتماع الطارئ لوزراء الداخلية بدول الخليج العربية الذي أشار بوضوح إلى أنه لن يقف مكتوف الأيدي تجاه ما يجري في اليمن. أخيراً، فإن «أنصار بيت المقدس» يتلقون الضربات الموجعة، وجماعة الإخوان الداعمة لهم منهارةٌ ولكنّ «أنصار الله» في اليمن يصعدون، وداعمتهم إيران تستطيع دعم استمرار الأصولية والفوضى ولكنها عاجزة عن خلق دولةٍ مواليةٍ لها هناك، وستكون اليمن عبئاً عليها لا مكسباً لها. وكل عامٍ وأنتم بخير.