«علي بابا» الصين حصل على الكنز، و«علي بابا» أميركا حصل على الأربعين حرامي. فعندما كان جنود الغزو الأميركي يطلقون اسم بطل قصة «ألف ليلة وليلة» على حرامية الحواسم في بغداد، كان رواد الأعمال الصينيون يطورون الشركة التجارية «علي بابا» عبر الإنترنت. وفي الأسبوع الماضي استّهلت الشركة «كالبرق الصاعق مبيعاتها في أسواق الأسهم، محققة في اليوم الأول المبلغ المذهل 231 مليار دولار». ذكرت ذلك «نيويورك تايمز»، فيما كرّست صفحات عدة لتغطية عودة القصف الأميركي لبلاد «علي بابا والأربعين حرامي». وكما يقول المثل الصيني القديم «أنا لستُ أنتَ، لكنك لستَ سمكة». فشركة «علي بابا» التي تعتبرها بورصة «نيويورك» أكبر شركة في العالم، أسسها عام 1999 مدرس متواضع اسمه «جاك ما» في بلده الذي يحكمه الحزب الشيوعي، وفق اقتصاد السوق الرأسمالي. وتبلغ ملكية «ما» وحده حالياً أكثر من 13 مليار دولار، ويشاركه في ملكية الأسهم العاملون في الشركة؛ من المديرين التنفيذيين إلى موظفي الاستعلامات، ومبيعاتها تفوق مجموع أكبر شركتين عالميتين للتجارة عبر الإنترنت، «إي بي» و«أمازون». وكل أيام «علي بابا» في الصين أعياد. عدد زوار موقع الشركة على الإنترنت 300 مليون شخص يومياً، منهم 50 مليون مشترٍ، ويبلغ عدد الرُزم التي تجهزها للإرسال يومياً 158 مليون رزمة. وتدير شركة «علي بابا» أكبر سوق في العالم، يعرض فيها 70 مليون بائع سلعاً يبلغ عدد أنواعها 760 مليوناً. وخدمات «علي بابا» مجانية، ومواردها الطائلة من إعلانات البائعين، والمنتجات والخدمات التي تتاجر بها صناعة صينية، وهي التي قفزت بأسهمها في أسواق الأسهم العالمية، وليس التجارة بمنتوجات «ماجدونالد»، أو «شيفيروليه» أو «جوجل». وأموال «علي بابا» ومثالُها يُفرِّخان آلاف الشركات الصينية، بينها 130 شركة أعمال على الإنترنت، أسّسها موظفون سابقون في «علي بابا»، وبعضها، كشركة نداء سيارات التاكسي، «ديدي داشا»، تخدم 100 مليون شخص. ومنافس «علي بابا» في الاستثمار في الشركات المبتدئة هو الحزب الشيوعي في مدينة «هانغزو»، مسقط رأس مؤسس «علي بابا»، وفيها «يستثمر الحزب الشيوعي بشكل ضار»، حسب «نيويورك تايمز». و«هانغزو» مدينة صناعية يقطنها ستة ملايين نسمة، ويعمل الشيوعيون على تحويلها إلى مغناطيس جاذب لشركات المبتدئين، وذلك عبر إقامة مناطق اقتصادية خاصة، ومراكز حاضنات التكنولوجيا العالية، ويقدمون قروضاً قليلة الكلفة لرواد الأعمال الشباب. «لجنة العلوم والتكنولوجيا» في الحزب الشيوعي في المدينة قامت بتوزيع 130 مليون دولار على 152 شركة مبتدئة. ونجاح «علي بابا» والدعم الحكومي جعلا مدينة «هانغزو» لولب رواد الأعمال. في العام الماضي جلبت «التجارة الإلكترونية» أكثر من ستة مليارات دولار للاقتصاد المحلي، وأصبحت جامعتها «تشيجانغ» مزرعة تغذية لشركات التكنولوجيا العالية المحلية، التي تتنافس بضراوة على خريجيها. ومراكز احتضان شركات المبتدئين هي من بنات أفكار «لي تشيجو»، أحد موظفي «علي بابا» الأوائل، والذي أسَّس مركز تقويم الأعمال، واشترته منه فيما بعد «علي بابا». وتراكم الأموال، وليس النظام الديمقراطي، هو الذي يجعل الصين بلداً متقدماً علمياً وتكنولوجياً. يذكر ذلك الكاتب الأميركي إيمون فنكلتون، مؤلف كتاب «بين فَكَّيْ التنين»، والذي يشير فيه إلى أن تراكم الثروات في العراق ومصر قبل آلاف الأعوام أقام أول الحضارات الإنسانية العظمى في بلدين يسودهما الحكم الفردي المطلق. ويؤكد فنكلتون أن سبب الصعود الأميركي الباهر في التكنولوجيا منتصف القرن الماضي، ليس الحرية، بل «شيئاً ما أقل شاعرية، ألا وهو النقود»، التي كانت توظفها الحكومة والشركات الأميركية بسخاء في أعمال البحث والتطوير. و«أمس لم يمكث»، حسب الحكيم الصيني كونفشيوس، والسؤال التاريخي الآن هو ما إذا كان ثراء الصين المتزايد سيجعلها تتفوق على الولايات المتحدة؛ أكثر بلدان العالم في الاختراعات؟ «والجواب وثيق الصلة بما يؤكده كثير من الخبراء، وهو أن الروح الابتكارية للولايات المتحدة تشير إلى التوقف فعلا». ويتناول كتاب فنكلتون «مصير أميركا في عصر الهيمنة الصينية القادم»، وفيه ينقل تصريح أحد مستثمري رأس المال المُخاطر في وادي «السليكون» بأن «قاعدة الإبداع الأميركي في العقود الأخيرة قد ضاقت بشكل بارز، وأصبحت تقتصر بشكل كبير على تكنولوجيا المعلومات، والخدمات المالية»، وذكر على سبيل المثال أن «النقل على الضد من ذلك لم يتقدم اليوم عمّا كان عليه قبل أربعين عاماً، وكذلك الأمر في علاج السرطان». و«بعد الغفوة الطويلة في الجهل، فإن كلمة واحدة يمكن أن تُغيّر الإنسان إلى الأبد». هذه الحكمة الصينية قد تفسر لنا كيف أن «الصين الشعبية» التي مرّت أمس 65 عاماً فقط على إعلان زعيمها ماو تسي تونغ تأسيسها، سجّلت هذا العام الرقم القياسي التاريخي العالمي باستثماراتها الخارجية التي تبلغ نحو أربعة تريليونات دولار. والأموال لا تغفو في البلد الذي لا يغفو. تقرير «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» ذكر أن عدد الباحثين في الصين تضاعف مرتين ما بين عامي 2000 و2007، فيما بلغت نسبة زيادة عدد الباحثين في الولايات المتحدة للفترة نفسها أقلّ من 10 في المائة. ويُتوقع أن يتجاوز إنفاق الصين على البحث والتطوير الإنفاق الأميركي عام 2023. وتكشف معطيات «المنظمة العالمية للملكية الفكرية» أن أكبر شركة في العالم تسجيل براءات الاختراع هي «الشركة الصينية للاتصالات»، والتي تضاعفت اختراعاتها المسجلة خمسة أضعاف بين عامي 2009 و2011. و«عندما تعرف شيئاً تمسّكْ بما تعرفه، وعندما لا تعرف شيئاً اسمح بما لا تعرفه، هذه هي المعرفة»، قال كونفشيوس، وهذا ما تفعله «علي بابا». فعندما يبلغ حجمُ المعرفة السحابَ فعليك بالحوسبة السحابية، و«علي بابا تملك الحوسبة السحابية، وهي تتعاظم أيضاً»، حسب عنوان تقرير في «نيويورك تايمز». ولم يكن اسم «علي بابا» يردُ حتى وقت قريب بين 15 شركة أعمال حوسبة كلها تقريباً أميركية كُبرى. لكن قُبيل طرح أسهم «علي بابا» ظهر أنها حققت موارد من مبيعات الحوسبة السحابية بلغت 102 مليون دولار العام الماضي، وكان مؤسس «علي بابا» قد أنشأ أعماله في الحوسبة السحابية عام 2009 لخدمة حسابات أعماله. والحوسبة السحابية لا تحسب فحسب في يوم واحد ما يحسبه العالم كله في عام، بل تقلل أيضاً تكاليف ذلك، والتي تبلغ السحاب، عند حساب معلومات الثقوب السوداء في الكون، أو معالجة مليارات من أزواج قواعد الحمض النووي التي يتوقف عليها إيجاد علاج لأمراض السرطان، أو رصد بيانات زلزالية عند وقوع الزلزال مباشرة، أو حسب أقرب مثال للذهن، حساب مليارات الوصلات التي تجري في الدماغ عندما نكتب أو نقرأ هذه الكلمات.