أفاد استطلاع للرأي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» أن صورة إسرائيل الدولية تلقت ضربة قاسية، إذ لم تتفوق عليها في سوء السمعة، حسب المستجوبين، سوى دولتين، وهي نتيجة صدقتها أيضاً صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية التي قالت في استطلاع للرأي إن 25 في المئة من الأميركيين ممن تتراوح أعمارهم بين 19 و29 سنة، يعتقدون أن الحرب الأخيرة على غزة لم تكن مبررة. وفي الأسبوع الماضي فقط نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية رسالة وقعها 34 ضابطاً إسرائيلياً من ضباط الاستخبارات يقولون فيها «نرفض الخدمة في الأراضي المحتلة»، لتتفاقم بذلك التحديات في إسرائيل سواء الآتية من الداخل، أو الخارج. وهذا الأمر يمثل صفعة لحكومة نتنياهو المسؤولة بسبب ممارساتها الاحتلالية عن هذه الصورة القاتمة، إذ فيما يتوقع الإسرائيليون من حكومتهم تقديم صورة إيجابية عن كيانهم، يقوم نتنياهو بعكس ذلك تماماً. فبعد الهجوم العسكري الأخير الذي تعرضت له غزة غدا العديد من المراقبين حول العالم يعتقدون أن نتنياهو يمثل حالة واضحة من حالات الإفلات من العقاب، بل يواصل بناء المستوطنات والممارسات الاحتلالية القمعية في تحدٍّ صارخ لإرادة ورغبة الولايات المتحدة، على رغم كونها هي الراعية الرئيسية لإسرائيل. ولئن كانت القيادة الذكية تقتضي، ضمن أمور أخرى، الالتزام العميق بالتغيير والتطور، فإن نتنياهو يرفض تبديل مواقفه اليمينية المتطرفة أو التزحزح عنها قيد أنملة، فما زال يؤمن بقدرته على تأبيد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية من خلال بناء المزيد من المستوطنات غير القانونية، وسرقة أراضي الفلسطينيين، وهدم منازلهم، وحرمانهم من حقوقهم وحريتهم، فضلاً عن الاستمرار في انتهاك القانون الدولي وتحدي الإرادة العالمية. كما أنه من صفات الزعيم الحقيقي التي تغيب كلياً عن نتنياهو قول الحقيقة، فقبل أن تنزلق الدولة العبرية إلى مزيد من التطرف وتتجه نحو اليمين كان بعض ساسة إسرائيل وقادتها في السابق أكثر واقعية في التعامل مع التحديات التي واجهت كيانهم الوليد، فها هو أول رئيس وزراء لإسرائيل، ديفيد بن جوريون، يقول في لحظة مكاشفة صريحة «لو كنت قائداً عربياً لما تصالحت مع إسرائيل... فنحن جئنا إلى هنا وسرقنا أرضهم، فلماذا يتعين عليهم قبول ذلك؟». والصراحة نفسها أبداها رئيس وزراء آخر هو «موشي شاريت» رغم فترته الوجيزة في السلطة، إلا أنه اعترف بأنه إذا كان هناك من شيء تعلمه خلال حكمه فهو الخداع والمراوغة! هذا في وقت يواصل فيه نتنياهو الترويج لـ«مظلومية» إسرائيل الزائفة أمام المجتمع الدولي، وهي دعاوى واهية لم تعد تنطلي على أحد بعد أن أدرك الرأي العام الدولي النزعة العسكرية الاحتلالية المفرطة للكيان الإسرائيلي، وتسخيرها لا للدفاع عن نفسه، بل لتكريس وضعه ككيان يحتل أراضي الغير ويحرمهم من تحقيق تطلعاتهم الوطنية المشروعة. وفي كثير من المناسبات صرح نتنياهو نفسه بما يفيد بأنه سياسي مراوغ وكاذب، كتلك المرة التي صرح فيها أثناء زيارته لعائلة مستوطنة في الضفة الغربية، قائلاً بتباهٍ فج: «أعرف كيف التعامل مع أميركا، فهي بسهولة تنحو إلى اليمين»! وبمعنى آخر كان نتنياهو يتفاخر أمام ناخبيه من اليمين بقدرته على التأثير في أميركا وحملها على تبني مواقفه المتطرفة. وكذلك باعتراف واضح منه كذب نتنياهو على الرئيس الأسبق بيل كلينتون عندما أخبره بأنه بصدد إعادة نشر قواته في قطاع غزة والضفة الغربية انسجاماً مع اتفاق «أوسلو» في حين كان فقط يكرس الاحتلال. وإذا كان الزعيم الحقيقي هو الذي يتفاعل مع نبض المجتمع الدولي ولا يشذ عن القاعدة، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي منفصل تماماً عن انتظارات العالم، حيث يواصل استخدام أسلوبه المتقادم الذي يخلط فيه بين أي انتقاد لإسرائيل ومعاداة السامية! ولعل حالة «جيك لينتش»، الأستاذ بجامعة سيدني الأسترالية أوضح مثال هنا، حيث رفض هذا الأخير الذي يساند حملة مقاطعة الجامعات الإسرائيلية التعاون مع الجامعة العبرية ومنْح أحد أعضائها الزمالة، والنتيجة أن منظمة إسرائيلية غير حكومية رفعت عليه دعوى قضائية تتهمه فيها بالتمييز ضد اليهود! وقد استندت الدعوى في بناء حججها على قانون أسترالي يحظر كل نشاط من شأنه التحريض على الكراهية التي ترى المنظمة أنها قد تعرضت لها بمنع قدوم باحث إسرائيلي للعمل في جامعة سيدني. بيد أن «لينتش» حرص على التوضيح خلال الإدلاء بإفادته، أنه يفصل فصلاً تاماً بين انتقاد النزعة العسكرية الاحتلالية للحكومة الإسرائيلية وبين شعب إسرائيل الذي لا يكن له أي ضغينة، رافضاً الاتهامات التي نعتته بمعاداة السامية! وقد أوضح موقفه لصحيفة «هآرتس»، قائلاً: «أرفض المشاركة في أية مؤسسة أعتقد أنها تعزز الطابع العسكري للحكومة الإسرائيلية وانتهاكها للقانون الدولي». وقد انتهت القضية بتفنيد كل ادعاءات المنظمة الإسرائيلية كونها لا تستند إلى أساس قانوني، بل أُجبرت على دفع مصاريف الدعوى، ما شكل انتصاراً لحركة مقاطعة الجامعات الإسرائيلية التي تقودها مؤسسات أكاديمية مرموقة ومراكز بحثية في الغرب. وعلى حد قول «لينتش» نفسه فقد «أسدلت القضية الستار على جميع مساعي المنظمة الإسرائيلية الرامية إلى الربط بين النشاط ضمن حركات مقاطعة إسرائيل وبين معاداة السامية». وعلى رغم الضغوط التي تمارسها إسرائيل على الجامعات الدولية وأساتذتها للتعامل مع المؤسسات البحثية في الدولة العبرية، إلا أن ذلك لم يعد يخيف أحداً، أو يثنيه عن التعبير على آرائه بحرية. وفي النهاية ونتيجة للأداء السيئ لحكومتها تواجه إسرائيل حالة من ردود الفعل السلبية في جميع أنحاء العالم. ولذا فقد حان الوقت كي يسائل الإسرائيليون رئيس وزرائهم الذي بات هو نفسه يتحمل مسؤولية التهمة ذاتها التي يرمي بها الآخرين، وهي تعزيز عزلة إسرائيل على الساحة الدولية وتلطيخ صورتها عالمياً.