لا يمكن الحديث عن العقل العربي والعقل الفرنسي والعقل الألماني، فهذه مصطلحات تكشف عن مواقف عنصرية نشأت في الغرب منذ القرن التاسع عشر، وما زال يتم الترويج لها في إسرائيل عن قصد بدليل آخر كتاب صدر لبتاي بعنوان «العقل العربي»، ولدينا عن غير قصد وتبعية للآخرين. ولكن هناك الفكر. ولا يمكن أيضاً أن نطلق عليه العربي، فالفكر لا جنسية له، بل هو الفكر الإسلامي أو فكرنا القومي إن شئنا. كما يصعب الحكم عليه بالتحرر أو عدم التحرر فهذه أحكام مطلقة لا تصدق على عملية تاريخية ومسار طويل تساهم فيه الإرادات الفردية والجماعية. وبالتالي يكون من الأفضل السؤال عن شروط التحرر أو درجة التحرر أو نسبة التحرر أو أوجه التحرر. ولا تكون الإجابة علمية عن طريق أخذ نمط آخر من الغرب أو الشرق تقاس عليه عملية التحرر. فلكل حضارة نمطها الخاص، النمط الصيني غير النمط الأوروبي، والنمط الهندي غير النمط الأميركي، وبالتالي فليس عصر النهضة الأوروبي مقياساً للتحرر وإن كان يعطي نموذجاً للتحرر في إطار النمط الغربي القائم على الانفصال بين الماضي والحاضر وليس الاتصال. ومع ذلك يمكن القول إنه بعد انتهاء الحضارة الإسلامية في دورتها الأولى في القرون السبعة الأولى حيث أعطتنا نموذجاً أول لنشأة الحضارة وتطورها واكتمالها في القرنين الرابع والخامس، جاء الغزالي وهاجم العلوم العقلية، ودعا إلى العلوم الذوقية. ولم تفلح بارقة ابن رشد في القرن السادس في وقف التيار المناهض للعقلانية. فجاء ابن خلدون ليؤرخ للحضارة الإسلامية في الدور الأول محدداً عوامل النشأة ومُركّزاً على أسباب الانهيار. ثم استمرت الحضارة الإسلامية بطريق آخر، في القرون الخمسة التالية خلال الحكم العثماني، تؤرخ لذاتها، وتدون إبداعاتها ما دامت عاجزة عن الإبداع، وهو عصر الشروح والملخصات. ولكن منذ قرنين، منذ محمد بن عبدالوهاب، والأفغاني، والكواكبي، ومحمد عبده، والسنوسي، والمهدي، والشوكاني، والألوسي، بدأنا الانبعاث، وهو سابق على النهضة أي إعادة الحياة إلى الموروث، وتخليصه مما علق به من خزعبلات وخرافات. فطهارة الدين، ونقاء الإيمان شرط أولي سابق على أية نهضة. ولكنه ظل إصلاحاً نسبياً أشعرياً في التوحيد وإن كان معتزلياً في العدل، أي أنه ما زال قائماً في نطاق السلفية الأشعرية التي سادت منذ ألف عام دون تقليصها ثم إيجاد البديل الاعتزالي العقلاني لها. فكان التحرر إذن محاولة نسبية فقط فيما يتعلق بقدرة العقل على التمييز بين الحسن والقبيح والإرادة الحرة ولكن ليس فيما يتعلق بغير ذلك. لقد سادت الحركة الأشعرية ألف عام، وظهر الاعتزال على مدى ثلاثمائة عام ثم انتهى. والإشكال إذن هو أن السلفية، بمعنى الماضوية، في حياتنا ما زالت لها الأولوية على العقلانية. والاعتزال يعني أن يكون العقل قادراً على تصور الحقائق، والإنسان حر عاقل، والطبيعة مستقلة لها قوانينها الثابتة، والإنسان له ماض وله مستقبل، ولكن يعيش في حاضره بعمله وجهده في مجتمع ودولة لها نظامها، وعليه واجب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». إذا استطعنا إيجاد الأشعرية إلى جانب الاعتزال حررنا العقل وأرسينا قواعد النهضة وشروط التقدم. إن أخطر ما يهدد الأمة هو اليأس، اليأس من نفسها، والولولة المستمرة، والإحساس بالنقص أمام الآخرين. وفي معارك التخلف والاستعمار، يكون اليأس في صالح أعداء الأمة لأنه يقضي على إبداعها، ويشل حركتها، ويجعلها تحول التبعية إلى سلوك دائم، وتصبح حضارة الآخرين، والحضارة الغربية نموذجاً لها، هي الحضارة الفريدة الواحدة التي تلحق بركبها كل الحضارات الأخرى. ولعل أقرب مثال على ذلك ما يروج بيننا باسم «الصدمة الحضارية»، ومؤداها أن معدل إنتاج الغرب أكبر بكثير من معدل اللحاق به، وأنه كلما حاولنا اللحاق بالغرب، فإن المسافة تتسع بيننا حتى تصل إلى ما لا نهاية، وبالتالي يحكم علينا بالتخلف الأبدي، وعلى الغرب بالتقدم الأبدي، ونظل تابعين إلى الأبد، وقد ننقرض لأنه قد لا يكون للتابع مكان في هذا العالم. ومكمن خطورة ذلك هو جعل الغرب باستمرار نقطة إحالة، ومعيار التقدم، ومقياس كل شيء. وهو يدل على موقف مغترب يصل إلى حد التنكر لقدرات الأمة على الخلق والإبداع، وانسلاخ من ماضيها وتاريخها وأصالتها. فالغرب ذاته ليس نمطاً فريداً، عبقرياً على غير منوال. بل إنه ضم كل نتاج الحضارات السابقة عليه من الصين والهند وفارس واليونان ومصر القديمة، والحضارة الإسلامية، والتراث الأفريقي والمكسيكي.. إلخ. وأخفى هذه الروافد حتى يشيع هذه الأسطورة وهو أنه نموذج عبقري فريد لا تقدر أية حضارة أخرى على الإتيان بمثله. وعلى هذا النحو تنفصل الشعوب غير الأوروبية عن تراثها، ومواطن إبداعها، وشروط نهضتها، وتتحول إلى حضارات مقلدة تابعة للغرب، فتتم الهيمنة للحضارة الغربية، بعد أن كانت للغرب الهيمنة العسكرية من خلال احتلال الأرض والغزو، ثم الاقتصادية من خلال نهب الثروات والمواد الأولية وغزو الأسواق والشركات متعددة الجنسيات، ثم السياسية من خلال الأحلاف ومناطق النفوذ، والثقافية عن طريق نشر الثقافة ومراكز البحث والإعلام، وأخيراً الحضارية من خلال بث اليأس وإجهاض العقول، وتحويل كل الشعوب غير الأوروبية إلى مستهلكة ناقلة للعلم وليست مبدعة وخالقة له. وقد نهضت الصين، وتحررت فيتنام، ونشأت علوم اجتماعية وطنية في أميركا اللاتينية، وتحررت شعوب العالم الثالث من النمط الأوروبي، وبنموذج وطني أصيل. إن كل شعب يعيش مرحلته التاريخية. وإذا كانت للغرب الريادة منذ خمسمائة عام فإن هذه الريادة الآن قاب قوسين أو أدنى من الانتهاء، فقد ظهرت ريادات أخرى تبشر بمستقبل قريب في الصين والهند والمكسيك وفي الأمة العربية، وفي العالم الثالث بوجه عام الذي أصبح يمثل نوعاً من الضمير العالمي. فالتقدم لا يستمر إلى الأبد لكل شعب، فكل شعب له دورته، وقد قاربت الدورة الأوروبية على الانتهاء. بل إن مفكري الغرب وفلاسفته، مثل اشبنجلر وهوسرل وبرجسون ونيتشة ينعون حضارة الغرب لأهله، يتحدثون عن أفول الغرب، وانتحار الغرب، وقلب القيم، وينتهون إلى العدمية المطلقة. وخرجت آلاف الدراسات عن مخاطر المجتمع الصناعي المتقدم، وتهديدات الحاسبات الآلية للحياة الإنسانية، وتلوث البيئة وحوادث الانتحار والبطش والجريمة والعنف، ومظاهر الفساد والانحلال والاستغلال. فإذا كان الغرب ينعي ذاته لنا فما بالنا نباركه ونتخذه نبراساً لنا ومقياساً للتقدم فنبعث في روحنا اليأس، ونؤخر أنفسنا بأيدينا؟