بعد التحمس العارم في الغرب، وخاصة في أوروبا، لموجة التغييرات التي شهدتها بعض الدول العربية، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ضمن ما سمي في التداول الإعلامي الغربي بـ«الربيع العربي»، ومع المخرجات السلبية، وحالة الفوضى العارمة التي ارتمت فيها بعض تلك الدول، ودول أخرى متماسة معها جغرافياً كما هي حال العراق مع سوريا، بدأ بعض الكُتاب الغربيين ينظرون إلى الأحداث في سياق أكثر واقعية، وأقل رومانسية، بحيث باتت أعمالهم تصف ما هو واقع وليس ما ينبغي أن يكون. ومن ضمن الأعمال الأخيرة، الساعية لمقاربة تحولات «الربيع العربي» يأتي كتاب المؤلف والأكاديمي الفرنسي فردريك آنسل: «جيوبوليتيكا الربيع العربي»، الذي يثير فيه حزمة من الأسئلة، عن واقع التغير الذي عرفته تلك الدول، وعن الأفق المتوقع أن تتكشف عنه أحوالها المضطربة الآن. وبطبيعة الحال يزيد من قيمة الكتاب صدوره بقلم مؤلف خبير في شؤون المنطقة العربية وقد أصدر عنها من قبل العديد من الدراسات. هذا فضلاً عن كونه أستاذ علوم سياسية في جامعة باريس رقم 8 ويحاضر كذلك في مدارس أكاديمية ومراكز بحثية دولية أخرى رصينة. ويتساءل الكاتب ابتداءً إن كان تعبير «الربيع العربي» نفسه ملائماً أصلاً لوصف التغيرات التي عرفتها تلك الدول العربية الخمس في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخاصة في ضوء جنوح معظم الحالات إلى العنف الطليق والاضطراب والفوضى، في حين أن استحضار كلمة «الربيع» يحمل في حد ذاته معنى سلمياً ورومانسياً مغايراً تماماً! وكذلك يثير الكاتب سؤالاً آخر عن المحرك الفعلي، والدافع الحقيقي، الذي أدى في النهاية إلى وقوع هذه التحولات من الأساس، مؤكداً أن الدافع الاقتصادي والمطلب الاجتماعي هما في الواقع ما أدى إلى إسقاط النظم السابقة في دول «الربيع»، وهذه هي الحقيقة التي قفز عليها من راحوا ينظّرون لما سموه الثورات من أجل الديمقراطية والتغيير السياسي بلغة رومانسية زائفة، في إسقاطٍ لواقع ثقافي وسياسي عرفته مناطق أخرى من العالم كمنظومة أوروبا الشرقية السابقة على الواقع العربي في تلك الدول المعنية، الذي يعاني اليوم من ضغوط الظروف الاقتصادية والإخفاقات التنموية وصعوبة توفير لقمة العيش في المقام الأول. وبعد استعراض الواقع الجغرافي السياسي «الجيوبوليتيكي» في المنطقة الشرق أوسطية، وبيان بعض خصوصيات كل واحدة من حالات التغير التي عرفتها دول «الربيع» والقوى التي لعبت دوراً كبيراً في إحداث التغيرات في الشارع وعلى أرض الواقع، يتحدث الكاتب أيضاً عن ركوب جماعات الإسلام السياسي موجة التغيرات ومحاولتها تجيير ما حدث لتمرير أجنداتها الخاصة، على نحو يستجيب لتعطش تلك الجماعات للوصول إلى السلطة، وإن لم يكن يستجيب، من الأساس، لتطلعات الشرائح الشعبية التي قادت الثورات، ولذا ظلت المسافة تتسع بين الشعوب وجماعات الإسلام السياسي حتى تكشّف الصراع بين الطرفين في النهاية بإسقاط نظام حكم «الإخوان» في مصر، من خلال انتفاضة شعبية عارمة سعى المصريون من خلالها لاستعادة ثورتهم، وتحقيق كل ما هو ممكن من مطالبهم المعيشية التي أدى التنكر لها أصلاً لإسقاط النظام السابق. وكذلك جرى أيضاً في دول أخرى العمل لتقليص وتحييد تغول بعض جماعات الإسلام السياسي التي حاولت الانفراد بكل شيء في عملية التغيير والتسيير والتدبير. ولم يقع بعض ذلك طبعاً دون دفع ثمن صعب، وما زال الصراع ضد تغول جماعات العنف والإسلام السياسي في ليبيا يحصد الأرواح حتى الآن. وفي سياق تعداد إخفاقات ومآزق «الربيع العربي» بين دفتي كتابه الواقع في 288 صفحة يستعرض المؤلف فرديريك آنسل ما يشبه كشف حساب للخسائر الهائلة التي تكبدتها دول وشعوب «الربيع»، متسائلاً عن السبب الذي جعل كل هذه الأهوال التي عرفتها سوريا مثلاً تستمر هكذا دون ظهور أي ضوء في نهاية نفق الأزمة المدمرة التي أعادت البلاد عقوداً مديدة من الزمن إلى الوراء. وكذلك الأسباب التي جعلت نظام الأسد يمضي في حالة إفلات مزمنة من العقاب جزاءً وفاقاً للفظاعات التي ارتكبها بحق الشعب السوري، بسبب انسداد مسار مجلس الأمن وشلل الإرادة الدولية عن وقف تلك الفظاعات. وفي الأخير ربما تلزم الإشارة أيضاً إلى أن الكاتب لم يسلم في كتابه من الوقوع أحياناً في فخاخ استحضار بعض الأحكام المسبقة والصور النمطية، التي تكاد تكون، أصلاً، جزءاً لا يتجزأ من أي عمل غربي متعلق بالمنطقة العربية. حسن ولد المختار ----- الكتاب: جيوبوليتيكا الربيع العربي المؤلف: فردريك آنسل الناشر: المنشورات الجامعية الفرنسية PUF تاريخ النشر: 2014