بين اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وقيام أميركا بقيادة تحالف دولي لملاحقة «القاعدة» تحت شعار «الحرب على الإرهاب» وسعي أميركا اليوم لتشكيل تحالف دولي لمواجهة «داعش»، مرت 13 سنة، جرت خلالها مياه كثيرة، وحصلت تغييرات واسعة طالت المنطقة العربية في مختلف أوضاعها: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والتعليمية والدينية، لكن شيئاً واحداً استعصى على التغيير، هو إيمان قطاع واسع من العرب، بأن المخابرات الأميركية هي من دبر تلك المؤامرة الإرهابية، أي أن أميركا «ضربت نفسها بنفسها، وأدمت أنفها»، فإن لم تكن المخابرات الأميركية وراءها، فهي حتماً «الموساد» الإسرائيلي، وأهداف أميركا من هذه المؤامرة وإلصاقها بالعرب والمسلمين هي: 1- تبرير تدخلها في أفغانستان والعراق لإسقاط نظاميهما المعاديين لها. 2- إيجاد ذريعة لإحكام سيطرتها على المنطقة والتحكم في مقدراتها ومواردها. 3- إعطاء «شرعية» لممارستها الضغوط السياسية لإجبار الدول العربية على تغيير المناهج التعليمية والدينية باعتبارها منتجاً لفكر الكراهية والتطرف المنتج للإرهاب العابر للحدود. 4- إيجاد فزاعة تخيف بها العرب من الخطر الإرهابي، ضماناً لانقيادهم في التحالف الدولي ضد الإرهاب. ولا أدل على رسوخ الإيمان بهذه النظرية (نظرية المؤامرة) في الساحة العربية إلى يومنا هذا من أن الكاتب المسرحي الساخر علي سالم كتب مؤخراً يقول: إنه كان يستمع إلى إحدى المحطات المصرية، الخميس 11 سبتمبر، ذكرى انهيار البرجين في أميركا (11 / 09) في أكبر حادث إرهابي عرفه التاريخ، فإذا بالمذيع الشاب يشكك في وقوع هذا الحادث بالشكل المعروف ثم يندفع للقول في حماسة وانفعال شديد: أميركا تستخدم الإرهاب كفزاعة، تخيف به العرب لكي تحكم سيطرتها على العالم العربي، ثم جاء بضيوف، أيّدوا أفكاره! «لماذا نذهب بعيداً؟ لماذا نستغرب من عمل هذا الإعلامي الشاب؟! ألا يزال كبار الرموز القومية واليسارية والإخوانية على «يقين راسخ» ببراءة «القاعدة» من هجمات 11 سبتمبر الإرهابية؟! لا زال أكبر رمز ناصري على اعتقاد بأن مَن ضرب أميركا هم «اليوغسلاف الصرب»، انتقاماً لضرب أميركا بلادهم في حرب البوسنة والصرب! ولا زال أكبر رمز إخواني على «يقين جازم» ببراءة بن لادن وصحبه من هذا العمل الإرهابي، لأنه -أولا- بايع أمير المؤمنين (الملا عمر) على السمع والطاعة وألا يعمل ما يؤدي إلى الإساءة للآخرين، ولأنه -ثانياً- لا يملك المقدرة الفنية والعسكرية على فعل مثل هذا العمل الذي يحتاج إلى تخطيط دقيق، وأخيراً فإن أميركا تعلم «علم اليقين» براءة بن لادن، طبقاً لما صرّح به في العديد من خطبه المنقولة فضائياً، علاوة على أن أميركا إنما قامت بحشد التحالف الدولي تحت اسم «الحرب على الإرهاب» بدافع «صليبي حاقد»، وهدفها الحقيقي من ذلك هو «الحرب على الإسلام»! لذلك لا غرابة في مواقف هؤلاء اليوم من رفضهم «التحالف الدولي» ضد «داعش»، بقيادة الولايات المتحدة، لاعتقادهم بأن أميركا لا تتحرك إلا وفق أجندات أخرى غير معلنة، لتحقيق مصالحها فحسب! وليس هدفها الآن محاربة الإهاب! بل يتمادى قطاع كبير من هؤلاء الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة إيماناً أعمى بأن أميركا هي صانعة الإرهاب، وأنها وراء «القاعدة» و«داعش» وغيرهما من تنظيمات الإرهاب! وإذ لا لوم على المؤمنين بنظرية التآمر الأميركي أو اليهودي على العرب والمسلمين، فهي وجهة نظرهم، وهم أحرار فيما يؤمنون به، كما لا تثريب على المتمسكين بها إلى اليوم، حتى بعد ظهور الأدلة والبيانات وسطوع الاعترافات -اعترف خالد شيخ محمد بن اعتقاله 2003 أمام القضاء الأميركي بأنه «العقل المدبر» لهجمات 11 سبتمبر. هذا فضلا عن الاحتفالات السنوية التي كان يقيمها «أصوليو لندن» تمجيداً «للعظماء الـ19». إن أولئك الرموز والنخب في تمكسهم بموقفهم، هم في النهاية، جزء من «تركيبة مجتمعية» تغلغل فيها تصديق فكر «التآمر» الخارجي، وترسخ في أعماقها، إذ إن «شجرة التآمر» تجد في البيئة العربية، أرضاً خصبة، تزهر فيها وتمد جذورها البعيدة، إلى عمق التاريخ الموصول بعصر «الفتنة الكبرى» التي يغالط مؤرخون في تحديد فاعليها عبر تحميل وزرها لشخصية يهودية أسطورية (عبدالله بن سبأ)! «الذات العربية» تبحث دائماً عن أعداء متربصين، تستسهل اتهامهم لتبرئة نفسها، فذلك يعفيها من تحمل المسؤولية، ويريحها من عبء عملية نقد الذات ومساءلة المؤسسات ومراجعة الأوضاع، لذلك طار العرب فرحاً لكتاب «الخدعة الرهيبة» للفرنسي تيري ميسان، لأنه قال: إن أميركا ضربت نفسها بنفسها! تقبلوا الكتاب بقبول حسن، وترجموه عدة ترجمات وطبعوه ووزعوه، واستضافوا الكاتب واحتفوا به محاضراً وأجزلوا له العطاء ثم طواه النسيان! ختاماً: إن كل ذلك يخالف منهج القرآن الذي يحمل المسلمين مسؤولية أوضاعهم: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» (سورة الشورى: الآية 30)، ويطالبهم بنقد الذات وتغيير الأوضاع: «.. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..» (سورة الرعد: الآية 11).