ليس صحيحاً ولا دقيقاً تسمية ما يجري في اليمن اليوم، بل ومنذ أكثر من عشر سنوات، حكاية. ففي الحكايات بعض الخيال والإضافات. وما يجري باليمن هو من الواقعية والهول بحيث لا يبقى فيه ظلٌّ من حكاية أو لحكاية! ذهبتُ للتدريس بجامعة صنعاء عام 1988، حيث بقيتُ سنتين. وهما سنتان غاصّتان بالأحداث: حرب الكويت، والوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب. وعندما ذهبتُ لليمن كان الرئيس علي عبد الله صالح حاكمه الأوحد، وكانت له شراكة مع «حزب الإصلاح» (الشيخ عبد الله الأحمر وقبيلة حاشد و«الإخوان المسلمون»). وعندما غادرتُ عام 1991 كانت الشراكة قد صارت ثلاثية: حزب الرئيس، و«حزب الإصلاح»، و«الحزب الاشتراكي». ثم سرعان ما شعر الاشتراكيون بالغبن وثاروا بالجنوب، فواجههم الجيش، وواجههم مسلَّحو القبائل و«حزب الإصلاح»، وعادت القسمة الثُنائية القديمة، واعتبر الرئيس صالح نفسه ممثلاً للجنوب مثل الشمال وأكثر! لقد ظل الغائب الأكبر في العملية السياسية كلها الجانب الزيدي. والزيدية أقدم الفرق الشيعية على الإطلاق، وهم يقعون في الموروث الثوري للإمام زيد بن علي بن الحسين، الثائر على هشام بن عبد الملك عام 122هـ. وكان لهم دور فكري كبير ونافسوا المعتزلة، وأسسوا دولاً في طبرستان ثم في اليمن، وبقيت دولتهم في اليمن من أواسط القرن التاسع الميلادي حتى العام 1962. قام العسكريون اليمنيون ذوو الميول القومية الناصرية بانقلاب على الإمام الزيدي عام 1962. وجرى تدخل عسكري مصري، مقابل دعم سعودي للإمام والقبائل الموالية له. واستمرت الحرب عشر سنوات، صمدت خلالها الجمهورية مقابل خروج المصريين من اليمن بعد نكسة عام 1967. وبعد أن كان التجاذب بين مصر والسعودية، صار التجاذب مع جنوب اليمن المدعوم من الاتحاد السوفييتي، وصارت المملكة حليفاً للنظام الجمهوري الذي تحالف مع القبائل القريبة من المملكة، ثم مع حزب الإصلاح المتشكل من «الإخوان» والقبائل وبعض السلفيين. وأتت الفرصة السانحة بعد طول الصراع مع الجنوب عندما تهاوى الاتحاد السوفييتي وانقسمت قيادة الجنوب، فدخل صالح على الخط واجتذب قسماً أَنجز معه الوحدة التي كانت حلم اليمنيين القوميين. وعندما كنتُ أُدرّسُ باليمن، اهتممت بحكم تخصصي بالفقه والكلام والتاريخ الزيدي. وذهبت إلى صعدة وضحيان وصوّرْتُ مخطوطات. وكما سبق القول فإن الوحدة تحققت وقتها. وقد رأيتُ شباناً من أصول زيدية وهم فرحون بالوحدة، ومنزعجون مما حصل لصدام. لكن طلابي وطالباتي (من أبناء السادة وبناتهم، ومن شيوخهم بضحيان) كانوا يُظهرون إحباطاً من غلبة القوميين والعلمانيين و«الإخوان» وفساد النظام. وكانت كراهية «الإمامة» ما تزال حية في الأذهان. وقد أخبرتُ بذلك الدكتور الأرياني الذي كان وزيراً للخارجية ثم صار رئيساً للوزراء. وقال لي إن اليمن لم يعرف الطائفية من قبل، لكنه يُحس بما أتحدث عنه منذ تحالفت الرئاسة مع «الإصلاح»، وظهرت تحديات سلفية في قلب المناطق الزيدية. وطلب مني الأرياني مرةً أن أُخبر الرئيس عندما كنا نقابله في الأمسيات. واستخف الرئيس بالأمر، وقال إنه زيدي، ولا داعي للخوف. لكنه قال ضاحكاً: إن «الإخوان» وذوي اللحى الحمراء لا يمكن حملهم على بطن أو ظهر! آخِر مرة ذهبتُ فيها لليمن كانت عام 1995. وفي حين كان التوتر بين الشماليين والجنوبيين ظاهراً بعد حرب الوحدة عام 1994، لاحظتُ أن بعض تلاميذي القُدامى صاروا ضد الوحدة، ليس بسبب اشتراكيتهم، بل بسبب زيديتهم. وطوال سنوات التسعينيات وبعد ما كانوا يمرون عليّ في بيروت، ويقولون إنهم ذاهبون إلى الضاحية للدراسة والتدريب عند «حزب الله». وقلت لهم: الحزب إيراني، وأنتم زيدية ولا تقولون بالإمام الغائب ولا بولاية الفقيه! وكانوا ذوي حياءٍ ويظهرون حيرة وتردداً في الإجابة. لكن أحدهم قال لي عام 1998: أنت لا تعرف التطورات الجديدة في الفكر الزيدي، فهل قابلت بدر الدين الحوثي؟ قلت: نعم قابلتُه عام 1990، وكان يتحدث عن الإمامة في البطنين! فقال: لكن الإيرانيين يعملون في أوساطنا منذ الثمانينيات، ونحن من أتباع آل البيت على أي حال، ونشعر بالغبن والتمييز في الدين والنظام السياسي منذ عام 1962، ولا يتضامن معنا غير إيران! قلتُ له: ماذا حدث لآل حميد الدين وآل الوزير؟ فقال: آل حميد الدين معظمهم في السعودية، وآل الوزير كانوا تقدميين وماويين ثم عادوا تحت وطأة الانتشار الإيراني إلى الإمامة! والنهضة الآن لآل الحوثي. قلتُ له: لكن أحمد الشامي أنشأ «حزب الحقّ»، وأراه حزباً جيداً ومعتدلاً. فقال: الوقت ليس وقت الاعتدال؛ فـ«الإصلاح» بشقيه من جهة، والرئيس الذي يتجول بحرية بين سائر الأطراف ويثير الانقسام والمزيد من الانقسام، وإيران التي ربّت جيلا كاملا للتشييع والعمل عندها، وباختصار: ضاع الشامي وحزبه! وتأكّدتُ من ذلك عام 1999، فقد دعا خامنئي مفتي الجمهورية اللبنانية لزيارة إيران، وأرسلني الحريري أنا والأستاذ محمد السماك لمرافقته. في قم أخذونا إلى جامعة الإمام الخميني، وهناك رأيتُ «العالمية الشيعية الجديدة» بأجلى مظاهرها. مئات بل آلاف من الطلبة من سائر أنحاء العالمين العربي والإسلامي، نصفهم على الأقلّ من أصول سنية، وبينهم مئات الطلبة اليمنيين (زيدية وشافعية)، ومن لم يتشيع منهم يعتبر إيران زعامة للعالم الإسلامي. قلت لطالب فلسطيني هناك: لماذا أتيت؟ قال: لأن فلسطين يتيمة بدون إيران! كان عام 2004 آخر مناسبة زرتُ فيها صنعاء. وقلتُ لأحد طلابي القدامى الذي دخل في «الشباب المؤمن» (التنظيم الذي أنشاه حسين بدر الدين الحوثي): خذني إلى صعدة! وهناك رأيتُ التظاهرات ضد حكومة «صالح»، وليس فيها غير شعار واحد: الموت لأميركا، الموت لإسرائيل! وقلت لأحدهم: ما شأن أميركا وإسرائيل بخصومتكم مع «صالح»؟ فقال لي مستنكراً: كل الحكومات العربية أميركية وصهيونية! ثم إننا نتبرك بالشعار الذي حمله «حزب الله» وانتصر به على إسرائيل! حتى عام 2010 جابه الحكم اليمني الحوثيين في ست حروب. وكانوا في البداية يشترون السلاح من سوقه اليمني الشهير، ثم صارت إيران تُهرّبه لهم من خلال أريتريا. ومات عبدالله الأحمر، واضطربت العلاقة بين أولاده و«صالح». وقال لي الإرياني، مستشار الرئيس اليمني: إن الرئيس يعتبر كل شبان الساحات أدوات بيد «الإصلاح» وآل الأحمر! واضطرت المبادرة الخليجية المدعومة بقرار من مجلس الأمن «صالح» للخروج بضمانات. وبقي أنصاره في الحكومة ومجلس النواب والجيش وقوات الأمن. وتحللت الدولة اليمنية في ثلاثة صراعات: ضد «القاعدة»، وضد الانفصاليين الجنوبيين، وضد الحوثيين الذي خاضوا معارك كر وفر فهجّروا السلفيين من صعدة، واستولوا على عَمران، ويحاولون الآن الاستيلاء على الجوف وصنعاء، ويستميتون للحصول على ميناء على البحر الأحمر، رغم أنهم قبلوا بنتائج الحوار الوطني. الزيود الذين دخل شبانهم في النهوض الشيعي العام، ينتشرون في المحافظات الثلاث (وعددهم حوالي عشرة ملايين)، وبقية اليمنيين من السنة الشافعية (حوالي 25 مليونا). والواضح أنّ الحوثيين يقلّدون «حزب الله»، لكنهم يريدون في النهاية إقامة دولة شيعية عاصمتها صنعاء القديمة. فالدولة الموعودة لا يمكن إقامتها، واليمنيون مقبلون على حرب أهلية طاحنة. أين الحكمة اليمنية؟!