لابد لنا ونحن نبحث مواقف الدول المختلفة من الصراع الجاري على الأرض الليبية من استرجاع رؤية رئيس وزراء حكومة الأزمة الليبية التي أدارت التوجيه ضد نظام القذافي، ومثلت قوى المعارضة أمام العالم آنذاك إلى أن نجحت الثورة وتم إسقاط النظام. إنه السياسي الليبي محمود جبريل الذي ينتمي إلى التيار المدني الديمقراطي. قال الرجل بكلمات صريحة في حوار صحفي إنه لمس أثناء اتصالاته بالدول الكبرى لإنجاح الثورة ضد القذافي أن هناك موقفين متمايزين؛ الأول لدى الولايات المتحدة التي كانت حريصة على التمكين لـ«الإخوان» وحلفائهم وتسليمهم إرث السلطة في ليبيا، الثاني لدى روسيا التي كانت تخشى من وصول قوى الإسلام السياسي حتى لا يمتد تأثيرها إلى الدول الإسلامية المجاورة لروسيا. وإذا تأملنا تصريحات حديثة للسفيرة الأميركية الحالية في ليبيا، ديبورراجونز، أدلت بها لصحيفة «تايمز أوف مالطا»، يمكننا اعتبار رؤية جبريل التي لمسها مبكراً. قالت السفيرة إن اعتراف واشنطن بالبرلمان الليبي المنتخب حديثاً لا يعني موافقتها على كل قراراته، مثل إعلانه أخيراً جماعات «فجر ليبيا» وتنظيم «أنصار الشريعة» جماعات إرهابية. وأضافت أن محاولة المليشيات ذات التوجه الإسلامي السيطرة على المطار وإعادة انعقاد البرلمان القديم هي محاولات تدخل في باب كسب النفوذ قبل بدء أي محادثات. وأكملت: لن أقلل من قيمة الشرعية في أعين المجتمع الدولي الذي اعترف بمجلس النواب المنتخب حيث توجد غالبية من الليبيين تريد العمل من أجل دولة موحدة. المعروف عندي عن مواقف واشنطن أنها تؤيد بدون تحفظات السلطة التي ينتخبها الشعب في صناديق انتخابات حرة ونزيهة وبالتالي تعتبر القرارات التي تصدرها السلطة المنتخبة، سواء أكانت برلماناً أم حكومة، قرارات ديمقراطية معبرة عن الأغلبية صاحبة الحق في الحكم. والمعروف أيضاً أن رؤية واشنطن تنحاز إلى منطق المشاركة السياسية بين الأغلبية الحاكمة بموجب الانتخابات وبين الأقلية المعارضة. إنني أعتقد شخصياً أن مبدأ توسيع المشاركة عند اتخاذ القرارات الكبرى يضمن للدول قرارات متوازنة معبرة عن الجميع لا تتميز بإقصاء أحد. والسؤال هنا لا يتعلق بقرار البرلمان المنتخب حديثاً اعتبار الجماعات المشاركة في عملية «فجر ليبيا» بمثابة جماعات إرهابية، بل يتعلق بالموقف الأميركي المطلوب فهمه من قيام هذه الجماعات برفض نتيجة الانتخابات التي أزاحت البرلمان القديم الذي كانت فيه أغلبية إسلامية وجاءت ببرلمان متوازن يعبر عن الجميع في ليبيا. لقد تعرض البرلمان الجديد لهجوم عسكري من المليشيات الإسلامية التي أغارت على العاصمة طرابلس بعد انتخابه واضطر إلى نقل مقر عمله إلى طبرق، وبعد ذلك سيطرت المليشيات على طرابلس وبدأت في إرسال قوات إلى منطقة بنغازي. لم تكتف بهذا بل أعادت البرلمان القديم المسمى «المؤتمر الوطني العام» وكلفت عمر الحاسي بتشكيل حكومة في محاولة لإلغاء الحكومة التي شكلها مجلس النواب المنتخب برئاسة عبدالله الثني ليصبح لدينا برلمانان وحكومتان. ترى هل تعتبر واشنطن هذه التصرفات أعمالًا تتفق مع قواعد الديمقراطية أم ترى مثلي أنها انتهاك صارخ لهذه القواعد؟ أرجو أن يهتم المسؤولون الأميركيون بشرح موقفهم لكي نفهم ما هو الأساس الفكري والسياسي الذي يبنون مواقفهم عليه.