انعقدت خلال الآونة القريبة عدة مؤتمرات سورية تبحث عن حلول لإنقاذ سوريا، وبدا أن تصاعد العنف بشكل مريع قد دعا كثيراً من السوريين للقيام بمراجعات فكرية وتأمل لمسيرة الحراك الشعبي والثوري، بعد أن غصت الساحة بالفوضى وخرجت الثورة الشعبية عن أهدافها وظهرت فيها شعارات لم تكن هدفاً للشعب ولا هي من دوافع ثورته. وكان ظهور «داعش» وما ارتكبته من جرائم ومن سلوك وممارسات متخلفة باسم الشريعة، والشريعة منها براء! وما امتلأت به صفحات التواصل الاجتماعي في المواقع الإلكترونية من صور وأفلام مرعبة اختلط فيها الحقيقي بالمزيف، قد استدعى القيام بتأمل عميق للأخطار التي تكبر وتجعل الثورة السورية تخرج عن أهدافها ومساراتها الأولى. وقد شارك كبار علماء المسلمين مع كثير من الشخصيات الثقافية والفكرية من مختلف شرائح وتنوعات المجتمع السوري بالإجابة على السؤال المهم «أين وصلت الثورة السورية، وماذا أنجزت، وإلى أين تمضي؟». وكانت غاية هذه اللقاءات والمنتديات إعادة الثورة إلى أهدافها الشعبية المتفق عليها وهي الحرية والكرامة وبناء دولة ديمقراطية يتم فيها تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، وأن تكون المواطنة وحدها أساس العقد الاجتماعي، وأن يرفض العدوان على سوريا في خضم مكافحة الإرهاب الذي صمت العالم على نموه وتضخمه في الساحة السورية، بل إنه وجد الكثير من الدعم والرعاية من بعض الجهات حين بدأ الإرهابيون بمحاربة القوى المعتدلة وإضعاف حضورها. وتم غض الطرف عن هذا النمو المتسارع والسماح بتدفق المتطرفين إلى سوريا من العديد من دول العالم! وقد حذر السوريون من خطر التدخل الخارجي الذي استدعاه النظام حين استعان بروسيا وإيران وأدخل فصائل إرهابية من العراق ومن لبنان، وكانت الخطيئة الكبرى التي لا تغتفر تاريخياً هي دخول «حزب الله» براياته الدينية وتضخيم الشرخ المذهبي في الصراع، وتحويله إلى صراع طائفي محض غابت عنه شعارات الحرية والكرامة والمواطنة، وحلت محلها دعوات دينية متطرفة في كل جهات الصراع. وكبر حجم معاناة السوريين اللاجئين مع انسداد آفاق الحلول السياسية أو النتائج العسكرية، وكثر أمراء الحرب الذين استغلوا الظرف العام، وغابت المبادرات السياسية الدولية وأهمل الملف السوري حتى على صعيد إنساني، مما استدعى ظهور تجمعات عديدة تطرح مباردات على صعيد مجتمعي، وتجمع كلها على ضرورة توحيد الجهود ولم شمل الفرقاء، والعمل السريع على إصلاح الائتلاف الذي باتت صورته مشوهة حتى في نظر المعارضة ذاتها. ولم يعد سهلاً أن تتكرر لحظة التأييد الدولي التي حظي بها فتسبغ على تشكيل جديد أو بديل، وبات الحفاظ على شرعية الائتلاف دولياً ضرورة على رغم كل ما تعرض له من ترهل وتفكك. ووجدت المعارضة نفسها تواجه قرارات مصيرية بعد أن توجهت القوى الكبرى لإطلاق حملة دولية لمكافحة الإرهاب. وكبرت الهواجس والمخاوف من أن يتجاهل المتحالفون جوهر القضية السورية، وأن يتحالفوا مع إرهاب ضد إرهاب، فيجد السوريون أنفسهم مجرد ضحايا لحروب قد تطول وتهدم ما تبقى من البنية السورية وتحصد مئات الآلاف من أرواحهم. وقد لا تجد حلولاً في النهاية التراجيدية سوى التقسيم وهو الحاضر الغائب في الوصفة الدولية للمعالجة، وقد باتت معالمه واضحة الحضور على الأرض، وهو يهدد باستمرار الصراع إلى عقود طويلة قادمة وهذا ما ترتاح إليه إسرائيل وفي الوقت نفسه يضمن لإيران استمرار نفوذها وتوسع دورها ولاسيما بعد أن ظهر الخفي من تحالفاتها مع من كانت تسميهم قوى الاستكبار. وتسعى المبادرات المطروحة في الفضاء السوري إلى التوافق على رؤية وطنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهذا يقتضي مراجعة فكرية تؤسس مشروعها الوطني على قيم يتوافق عليها السوريون جميعاً ولا تكون موضع اختلاف وهي قيم ترسيخ مفهوم المواطنة وقيم العدالة والحفاظ على حقوق المواطنين جميعاً وإنهاء كل مظاهر الصراعات الطائفية، والعمل معاً لحماية السلم الأهلي، وإرجاء كل القضايا المختلف حولها من تفاصيل وشعارات إلى مرحلة لاحقة بعد أن يتم تشكيل جمعية تأسيسية تهيئ لدستور جديد مع إمكانية العمل بدستور عام 1950 كي لا يحدث فراغ دستوري. ثم يتم تشكيل برلمان تدور تحت قبته مناقشة الرؤى المختلفة، وقد تستدعي هذه الرؤية إرجاء استخدام بعض ما يتم تداوله مما أسميه ترفاً فكرياً أو تجاوزاً للوقائع كالاختلاف على تسمية الدولة أو إطلاق صفات دينية أو علمانية ينصرف الجدل إليها فتكون سبب صراعات جانبية على حساب الأهداف التوافقية الكبرى. ولابد من الإشارة إلى أن اعتماد مفهوم المواطنة سيلغي ما يتردد أحياناً من مطالب راهنة مثل تطمين الأقليات، فمثل هذا يحمل اتهاماً للأكثرية بأنها عدوانية، ويحمل اتهاماً للأقلية بأنها متهمة وتخشى عقاباً، فالعقاب لمن سفك دم الشعب السوري، ومن ارتكبوا الجرائم هم من كل تنويعات الطيف السوري، كما أن من رفضوا الظلم والطغيان هم من كل تنوعات هذا الطيف. ولقد طرحت في مقالات سابقة دعوة لمؤتمر وطني عام وشامل تمت مناقشة رؤيته مع صفوة من النخب السورية وهو لا يختلف عن دعوات مماثلة يطلقها السوريون في أماكن شتاتهم واغترابهم، ولكننا في مجموعة التشاور حول طبيعة هذا المؤتمر الذي ندعو إليه رغبنا أن نتجاوز التقسيمات المجتمعية الراهنة بين مؤيد ومعارض ورمادي، فالنخب أولى بأن تسمو فوق التصنيفات وهي مدعوة لوضع حلول موضوعية تنطلق من الثوابت ومن الحفاظ على مطالب الشعب في الحرية والكرامة وبناء الدولة الديمقرطية، فهذه المطالب ليست موضع خلاف، حتى إن النظام ذاته أقر بمشروعية هذه المطالب في بداية انطلاق الثورة. وقد أشرت في غير موقع إلى بيان مؤتمر صحارى، على رغم التفاف النظام على هذه المطالب والإصرار على كونها نتاج مؤامرة كونية قبل أن تتشكل المؤامرة الدولية، وعلى أنها إرهاب قبل أن يظهر الإرهاب، وعلى أنها طائفية يوم كان نداء «الشعب السوري واحد واحد» هديراً يجلل في كل أنحاء سوريا. ولن نستبق ما قد تصل إليه هذه النخب من رؤى وطنية، ولا أحد يملك أن يفرض على الآخر رؤيته، ولكن المهم أن يستعيد السوريون قرارهم وأن يقوموا هم بتقرير مصيرهم، وقد بات السوريون وبعض العرب كذلك مجرد منفعلين بدل أن يكونوا فاعلين.