الوقائع التي تلتها المحكمة الاتحادية العليا أواخر الأسبوع الماضي، في قضية المتهمين بالانضمام إلى منظمتي «جبهة النّصرة» و«أحرار الشام» الإرهابيتين، كان بينهم تسعة مواطنين من دولة الإمارات العربية المتحدة يرتبطون ببعضهم البعض بصلات عائلية، وتتراوح أعمارهم بين 24 و35 عاماً، أي أنهم جميعاً من فئة الشباب، وهو ما جعل الرأي العام الإماراتي في حالة من الاستغراب. فالشباب الإماراتي يعيش الآن فرحة التدافع اللامسبوق نحو معسكرات الخدمة الوطنية، ومظاهر الاستعداد التام للذود عن الوطن بالأرواح والأنفس، ومواجهة مستهدفيه من الجماعات الإرهابية التي حسدته على نعمة الإرادة التي أنعم الله بها على شعبه، فأوجدت النهضة الشاملة التي لم تهزّها رياح الاستهداف، ولم تفلح حمم الجحيم العربي في الاقتراب منها. ومع ذلك فإن هذه القضية تطرح عددا تساؤلات مشروعة حول تفاصيلها وملابساتها، وحول مدى حصانة المجتمع في وجه هذا المرض الخطير الذي يتهدد فئة الشباب بشكل خاص. وإذا كان التساؤل مشروعاً حول الشباب الذين يحملون جنسية الإمارات فما بال هؤلاء الذين يحملون جنسية جزر القمر، والذين لم يراعوا حرمة البلد الذي أتاح لهم حرية الإقامة على أرضه، ولم يحترموا جهود الدولة من أجل تسهيل ظروف حياتهم وتيسير شؤونهم؟ وهل هذا هو الوفاء ورد الجميل؟ والأغرب هو كيف يعتقد هؤلاء أن أجهزة الأمن في الدولة غافلة عما يدور حولها، وأنهم يمكن أن يفلتوا من العقاب؟ الحقائق كانت صادمة، فبعض المتّهمين كانت وظيفتهم إغواء الطائشين من الشباب، واستغلال قلة وعيهم وتجنيدهم وبعثهم لميادين القتال، وهو نوع من الاستهداف الرخيص الذي لم يتوقعه أحد ممن للإمارات عليهم أفضال كثيرة، لأن مثل هذه الأساليب الاستقطابية تنشأ عادة في دول أخرى. وكون معظم المتهمين ينتمون لنسب واحد، فذلك يعني أن مَن غرر بالمتهمين يبقى بالضرورة قريباً منهم، وربما يكون قد استخدم بعضهم لإقناع البعض الآخر. فالدولة اعترف العالم لها بالأفضلية المطلقة في رفاهية شعبها من دون تمييز أو استثناء، وبالتالي فإنه لا توجد مظلومية أو فقر أو حاجة دفعت هؤلاء الأقارب إلى الإجرام بحق أنفسهم وأهلهم ومجتمعهم. وتدلل التهمة بجلاء على أن ثقة مقنعيهم في كمال قناعتهم بما أوهموهم به تكاد تكون معدومة، بدليل أنهم رضوا بقيام الإرهابيين بتمزيق جوازات سفرهم الإماراتية فور وصولهم، من دون مراعاة لأهمية تلك الجوازات والوثائق، واعتبارها جزءاً من سيادة وطن ولا يجوز تمزيقها أو إهانتها، لكنهم أرادوا أن يقطعوا أمامهم الطريق إلى أية رجعة محتملة، وهنا يبرز أحد الوجوه القبيحة لتلك التنظيمات الإرهابية التي تمعن في استغلال بشع لسن أولئك الشباب. وأخطر ما يمكن قراءته عن تلك التنظيمات الإرهابية المتأسلمة من خلال تلك المحاكمة المؤجلة، هو لامبالاتها بالدستور والقوانين، واستباحتها لكل النظم والمجتمعات، فقد تجرأ بعض المتهمين على القيام بصناعة متفجرات، بل قاموا بتجريبها في مناطق نائية رغم احتوائها على مواد ضارة جداً غير عابئين بالبيئة وبالإنسان الذي يعيش فيها، ولا بالقوانين التي نظّمت خطوات القيام بأي عمل صناعي أو تجاري، وتوغلوا أكثر في خرق القوانين بجمعهم أموالا لمصلحة تلك التنظيمات في تحدٍ واضح لقوانين الدولة التي جرّمت الإرهاب وحظرت التنظيمات التي توجّه أولئك المتهمين للانضمام إليها. وكعادة التنظيمات المتأسلمة التي يربط بينها خيط واحد هو الهوس باستخدام فضاءات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي لتجنيد الشباب وإحداث فتن في مختلف المجتمعات، لضمّها لخارطة الفوضى التي رسمتها مناطق تواجدهم.. قام بعض المتهمين بإنشاء وإدارة مواقع إلكترونية سعت للترويج لأفكار تلك التنظيمات والإساءة للدولة. هذه الأفعال الشنيعة التي وردت في لوائح الاتهامات لابد لمجتمع الإمارات أن يتعامل معها بجدية كاملة، فدور البيت في مراقبة أبنائه ومعرفة المخاطر المحدقة بهم، كالاستماع إلى شيوخ الفتنة وفضائيات الضلال، وكذلك التّأكّد من أصدقائهم، خاصة في سن المراهقة وبدايات الشباب.. واجب وطني. فالتربية الصالحة تعدّ من أهم دعائم الواجب الوطني، والخدمة الوطنية التي يؤدّيها الآباء في غرس القيم الوطنية والمجتمعية والسلوكية في نفوس أبنائهم تتصدر قائمة الفعال الوطنية الرفيعة الصالحة. وللمدارس والجامعات دور كبير يجب أن يتضاعف في الفترة المقبلة، فالإمارات تمكنت من النأي بنفسها عن حرائق الجحيم العربي بفضل الوعي التام بالخصوصية، والقراءة الشعبية العامة لما يجب أن تكون عليه أوضاع الدولة. ولا يمكن إعفاء الجهات الوطنية المعنية بالتوعية وجمعيات النفع العام من لعب دور أكبر وأعمق في توجيه سلوكيات الشباب نحو ما يفيدهم ويفيد مجتمعهم، وتذويب قدراتهم لمصلحة الوطن، وشغل كل أوقات فراغهم بما يفيد. كما يجب على الجهات الإعلامية أن تفرد مساحات أكبر للجرعة الوطنية، لأن المرحلة الحالية تحتاج الكثير من العمل الوطني والمجتمعي والبنيوي، فالوعي الوطني الذي أثبته شباب الإمارات تمكّن من إثبات قوة العقيدة الوطنية في تركيبة الإنسان الإماراتي، وتمكن من ترسيخ عادات وقوانين ومُثل إنسانية كبيرة، بدءاً بالعمل الإنساني الخيري للشعوب، وانتهاءً بثقافة القوات المسلحة الإنسانية. وتعدُّ تجربة أولئك المتهمين أكبر عبرة لغيرهم من ضعاف النفوس وفاقدي الوعي العام، فرغم أن جوازات سفرهم قد تمّ تمزيقها، ورغم أن التنظيم الإرهابي المتأسلم وفّر لهم الفتيات استغلالا لاضطرابات تفكير المراهقة، فإنهم لم يتمكنوا من الاستمرار، وانتهى بهم المطاف إلى المحكمة الاتحادية العليا، ولو ثبتت عليهم التهم سيكونون قد خانوا وطنهم ومجتمعهم، وفي ذات الوقت عرفوا متأخرين حقيقة الأوهام التي رسمها لهم أولئك المستهدفون آمالا خيالية في أذهانهم، وخسروا كل شيء من أجل لا شيء!