تتزايد أهمية الخيال عامة والخيال السياسي على وجه الخصوص في وضع الخطط والاستراتيجيات والاستعداد للحروب وخوضها بغية الانتصار فيها. فالخطط والاستراتيجيات، هما أعلى درجة في التفكير والتدبير والترتيب ونطاق التأثير والأفق الزمني من «السياسة» وإن كانا مثلها يتعلقان بـ«فن الممكن». والأمور الثلاثة متداخلة، وتشترك في منظومة الغايات والطرائق، واستخدام الفكر الاستراتيجي بدرجات متفاوتة. وتبقى الاستراتيجية هي عملية فكرية منضبطة ذات مخرجات وغايات ووسائل محددة بوضوح، وهي تخدم الهدف السياسي الوطني، وتخدم السياسة في إطار التقلبات والتعقيدات والهواجس والغموض، حيث يصبح «التفكير الاستراتيجي هو القدرة على تطبيق الاستراتيجية في الواقع، ثم صياغة ما يخدم بنجاح مصالح الدولة، من دون تحمل مخاطر يمكن تفاديها، ولذا فهو يتضمن جانبي الفن والعلم معاً». ونظراً لأن التفكير الاستراتيجي يتطلب كلاً من التفكير النقدي والتفكير الإبداعي، إلى جانب التفكير في التأثير المتبادل بين المنظومات، والتفكير في الزمن، والتفكير الأخلاقي، فإن للخيال دوره المهم في صياغة الاستراتيجيات، من زاوية المساهمة في زيادة الفهم، وتوسيع التفسيرات المنطقية الممكنة، ووضع الخيارات البديلة، وتحديد الفرص المحتملة. وكل هذا يصب في إطار «صياغة الثالوث الاستراتيجي المتمثل في الأهداف والأفكار والموارد»، وكل منها يحتاج إلى خيال. وهذا الاحتياج يعود إلى أن الاستراتيجية تتسم بأنها «استباقية توقعية»، وإن لم تكن «تنبئية»، وهذا الاستباق يرمي إلى رعاية المصالح الوطنية وحمايتها مما قد يخبئه المستقبل، ولذا ينبغي ألا يقوم على التقديرات الجزافية أو الخيالات الأسطورية، وإنما على دراسة الاحتمالات والسيناريوهات، ووضع الافتراضات والمنطلقات، التي تكون بدورها مشروطة بما يجري على الأرض، وبالإمكانات المتاحة. وهذا معناه أن الخيال الذي يتم توظيفه في إنتاج الاستراتيجيات هو خيال منطقي خلاق، يبدو ضرورياً حتى يمكننا توقع ما يأتي، واستباق الأخطار والعمل على تفاديها، أو تحقيق المكاسب وتعزيزها. أما في الحرب فيفيد الخيال المحاربين سواء حين يخططون للقتال، من حيث تحديد المكان والزمان والوسائل والمقاتلين، أو حين يديرون المعركة في الميدان نفسه، بعد أن تقرع الطبول وتنطلق حمم النار، وكذلك حين يجلس هؤلاء ليتصوروا شكل الحرب في المستقبل. وربما قاد «خيالهم الاستراتيجي»، إن صح التعبير، مجالات عدة في الحياة إلى التطور والتقدم خطوات إلى الأمام، من زاوية أن كثيراً من الاختراعات الحديثة خرجت من رحم الصناعات العسكرية، أو كان التفكير في كسب الحرب دافعاً للتوصل إليها، أم أن الحاجة إلى الهيمنة أو الردع هي أمُّ اختراعها. ويقر المنظّر الاستراتيجي الشهير كلاوزفيتس بأن «جميع القادة العظماء قد تصرفوا انطلاقاً من فطرتهم، وحقيقة أن فطرتهم كانت دائماً سليمة هو جزئياً مقياس لعظمتهم وعبقريتهم الطبيعية». ويعود تركيز كلاوزفيتس على الحدس أكثر من التفكير الواعي إلى درايته بأن الحروب لا تديرها المعادلات الحسابية على الورق إنما التصرف في الميدان. ولهذا كان المفكر والمؤرخ العسكري ليدل هارت يرسم لوحة بالكلمات يتخيل فيها وضع الحرب قائلا: «في الحرب نماثل رجلاً يبذل كل جهده للبحث عن عدو في الظلام، والمبادئ التي تحكم تصرفنا ستكون مماثلة لتلك التي يمكن أن يتبناها على نحو طبيعي. يمد الرجل ذراعاً لكي يتلمس طريقه إلى عدوه (استكشاف). وحينما يلمس خصمه يتحسس طريقه إلى رقبة الأخير (استطلاع)، وبمجرد أن يبلغها يمسكه من ياقته أو من رقبته حتى لا يتمكن خصمه من الفكاك أو الرد عليه بطريقة مؤثرة (تثبيت)، ثم يضرب بقبضته الثانية عدوه، الذي أصبح عاجزاً عن تفادي الضربة. ضربة قاضية حاسمة (هجوم حاسم) وقبل أن يستطيع عدوه أن يفيق يتابع وضعه المميز لكي يجعله فاقد القوة نهائياً (استثمار)». وهناك رؤى عملية أشمل عن سيناريوهات وضعت لحرب قادمة، مثل تلك التي حواها تقرير أعده مجموعة من الخبراء الأميركيين برئاسة الأدميرال دافيد جيرميه نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة، يعرض مسارات الصراعات المحتمل وقوعها بقوة بعد انتهاء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي المنهار وعقب حرب الخليج 1991، ويحدد عدد ونوعية القوات والأسلحة التي ستستخدمها القوات الأميركية والميزانية اللازمة لذلك. وحدد التقرير نطاقاً زمنياً يتراوح بين عامي 1994 و1999، متصوراً سبع أزمات محتملة قد تجر واشنطن إلى الحرب وهي: تهديد جديد في منطقة الخليج على يد العراق، وهجوم مباغت من قبل كوريا الجنوبية على جارتها الشمالية، وإمكانية حدوث هذين السيناريوهين بشكل متزامن، ونشوب توترات في دول البلطيق، واحتمال حدوث انقلابات عسكرية تهدد أمن أميركا ومصالحها أو قيام حرب بين فصائل الجيش الفلبيني بعد تخفيض الوجود العسكري الأميركي هناك، وإمكانية تحالف الإرهابيين وتجار المخدرات والعصابات في بنما بما يهدد الملاحة، واحتمال قيام روسيا بعملية عسكرية توسعية في أوروبا. وعلى رغم أن هذه الحروب المتخيلة لم تقع فقد ساهمت في تعزيز جاهزية العسكرية الأميركية وتفوقها. لكن الحاجة إلى الخيال لا تقتصر على إبداع طرق أو أساليب للتعامل مع الميدان أو التفكير فيما سيجري فيه، وإنما تمتد إلى تخيل وضع الحرب في المستقبل، وما إذا كانت ستظل مرتبطة بدوافعها القديمة مثل تحقيق المصلحة وتعزيز المكانة والانتقام وحفظ الأمن، أم أن قيوداً جديدة ستطرأ على الدول في اتخاذ قرار الحرب على خلفية أي من هذه الدوافع، وهي مسألة شرحها ريتشارد نيد ليبو في عمله: «لماذا تتحارب الأمم؟: دوافع الحرب في الماضي والمستقبل». وفي كل الأحوال فإن باب التفكير ينفتح على مصراعيه لتخيل شكل الحروب ونوع السلاح المستخدم فيها والمهام الجديدة التي ستجد الجيوش نفسها أمامها والأماكن التي ستطلق فيها النيران، مثلما أوضح «ريتشارد كلارك» و«روبرت نيك» في «حرب الفضاء الإلكتروني: التهديد التالي للأمن القومي وكيفية التعامل معه». وفي كل الظروف أيضاً ستبقى الحرب بمثابة «إزميل سيئ لنحت الغد» كما قال مارتن لوثر كينج.